وجود على آثار أخرى.. “الهزيمة باللغة العبرية” ورؤية يهودية معادية للاستعمار الإسرائيلي
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>الضحية لا تحتاج إلى شهادة مُعذِّبها لتتأكد من خسارتها، يجب عليها أن تلمس الجروح على جسدها وتكفيها شوك الأسلاك لتعرف حدود حريتها المُسلوبة، كما أنها عادةً تغفو وهي تتألم بواقعها “المنقضي” عند قلبها.
من عادات الاستعمار الاستيطاني في العصر الحديث أن يُنشئ وجودًا على آثار آخرى ويجتهد في خلق طابع شرعي للضحية وتكميم قصتها عن ماضيها وبقيّة حاضرها من خلال آليات مُعدة مُكتنزة بأخلاقيات مُنظَمة.
ومقابل ذلك، يحتاج التحالف مع الضحية -من داخل المجتمع الاستيطاني- إلى شجاعة أخلاقية تكون على استعداد لفقدان الامتيازات بالإضافة إلى الكفاءة المعرفية التي تُسمح بإمكانية الرؤية من خارج “الكهوف المظلمة”.
وهذا ما يجعل قصة الكتابان والمؤرخان الإسرائيليان إيثان برونشتاين أباريسيو وإيلينور ميرزا برونشتاين، مميزة في مسعاهم “لتفكيك الاستعمار الإسرائيلي وتحقيق العدالة والحرية للشعب الفلسطيني بما يشمل حق اللاجئين في العودة”.
صُدرت مُؤخرًا ترجمة لكتاب “الهزيمة باللغة العبرية- حول الصراع اليهودي ضد الصهيونية”.في سرب الكتابين المحلقين الإسرائيليين والعاملين في “مؤسسة ذاكرات” لمواجهة طمس النكبة، يناقشان مركز الدراسات الإسرائيلية “مدار” وترجمة مصعب بشير للكتاب من الإنجليزية إلى العربية على مدى 352 صفحة.
نكبة لغوية
مواجه للكاتبان لمجتمعهما “المستعمر” بواقع الاستعمار والاحتلال والفصل العنصري، حيث يسحب التاريخ على أرض فلسطين ويمحو وجود الفلسطينيين من حيزهم الإنساني والمكاني والثقافي، في رواية مقارنة مع السرد الإسرائيلي الذي يحتكر دور الضحية ويسرق تجارب يهود العرب ويهين لغتهم وتراثهم، وذاكرتهم في مجتمعاتهم، ويستخدم لغتهم من أجل ارتكاب “نكبة لغوية”.
يذكر الكاتبان – اللذان اكتشفا في بداية الكتاب أنهما شركاء في الحياة والعمل والنضال، وكانا يعيشان في تل أبيب حتى نهاية عام 2019 قبل مغادرتهما إلى بروكسل للعمل خارج أرض فلسطين – أنهما نشرا الكتاب لأول مرة عام 2018 باللغة العبرية.
ويرجعان ذلك إلى رغبتهما في تقديم تقويم للنضال الذي تم بذله لإدخال مفهوم النكبة في الخطاب اليهودي في إسرائيل، من خلال جهود مؤسسة “ذاكرات” التي أسسها إيتان عام 2001 وشاركت فيها إليونور والتي أعربت عن رغبتها في ترك قصة لابنها هادريان “في محيط يسوده القومية”، وجاء كتاب العبرية بهدف قراءته من قبل الإسرائيليين.
وتقول إلينور – التي تصف نفسها بأنها ابنة زوجية شيوعية تجمع بين يهودية وإسلام- إنها تطمح إلى إعلام ابنها أن والدها (إيتان) ساعدها في “تحقيق توازن بين اليهودية ورفض الاستعمار، حيث يمكننا رؤية أنفسنا في شتى الانتماءات والهُويات”.
لكن التحور من العبرية إلى الترجمة العربية ليس مجرد ترجمة تقنية؛ بل هناك توتر لغوي مائل يعتري الكاتبان، الذين يدركان وجوده، حيث مفهوم “العلو” أو “الأعلى” الذي يستخدمه الإسرائيليون لوصف “هجرة اليهود إلى وطنهم إسرائيل” بموجب الفكر الصهيوني هو مفهوم ذو طابع إيديولوجي صهيوني وليس مجرد تنقل من مكان إلى آخر، وحتى استعمال “إسرائيل” للدلالة على فلسطين التاريخية يعد استعمالًا مثيرًا للجدل ومُهينًا خارج إطار اللغة العبرية، التي يعتبر الكتاب أنها قد تكون “المنتج الصهيوني الأهم”.
النكبة بمنظور إسرائيلي
يقوم الكتاب بمسح آراء ومشاعر الإسرائيليين تجاه النكبة وحق العودة للفلسطينيين، مشيرًا إلى ما وُصف بـ “إعادة صياغة التاريخ” في الحوار السياسي المعاصر، حيث لم يتردد رئيس الوزراء في عام 2015 في إيراد تصريحات تقول إن أدولف هتلر لم ينوي إبادة اليهود بل كان ينوي طردهم حتى أن مفتي القدس أمين الحسيني كان الذي علمه مفهوم الحل النهائي.
ويشير الكتاب إلى أن أهم المؤرخين المختصين في فترة الحرب العالمية الثانية نافوا تلك الادعاءات، ولكن مع ذلك لا يزال تأثيرها كبيرًا في المجتمع الإسرائيلي؛ حيث جعلت الفلسطينيين يُصوّرُون على أنهم نازيون جُدد وخلقت روح العنصرية وشرعنتها.
وفي هذا السياق المرهق، يتم الحديث عن النكبة وحق العودة ضمن “سردية فلسطينية منفصلة عن تاريخ إسرائيل أو هويتها”، ويُسلط الضوء الكتاب على إخراج نقاش النكبة من ميدان الأخبار والسياسة والحوار العام.
وبعد إجراء استطلاع ودراسة من قبل الباحثين، تبين أن نصف اليهود الإسرائيليين تقريبًا لا يعلمون معنى “النكبة”، وهو أمر مقلق؛ حيث يعتبر الكتاب “الحدث المحوري في تاريخنا والأكثر فظاعة في المشروع الاستعماري بشكل عام كما أكدا المؤلفان”.
بدايات ساذجة
يشير الكتاب إلى أنه كان من المفاجئ أن أول من استخدم مصطلح “نكبة” لوصف الكارثة الفلسطينية كان الجيش.في ذروة التاريخ، في شهر يوليو/تموز 1948، نشرت القوات العسكرية الإسرائيلية إعلانات ترويجية لسكان “طيرة حيفا” الفلسطينية الذين كانوا يناضلون ضد عملية طردهم من بلدتهم. بلكت النص بأسلوب مباشر باللغة العربية، داعيًا الأهالي للاستسلام بهذه الكلمات: “إن كنتم ترغبون في تجنب الكارثة والهلاك والنجاة من المصير الحتمي، عليكم بالاستسلام”.
وفي غياب ذلك، في شهر أغسطس/آب من ذلك العام، كتب الفيلسوف السوري قسطنطين زريق دراسة تحت عنوان “فهم مفهوم النكبة”، حيث أشار إلى أن هزيمة العرب في فلسطين لم تكن مجرد نكبة بسيطة أو شهر عابر، بل كانت نكبة بكل معانيها العميقة. وبعد بضعة أشهر من ذلك، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1948، نشر الشاعر (الإسرائيلي فيما بعد) ناتان ألترمن قصيدة تروي آثار مجزرة تعرض لها فلسطينيون بريئون على يد جنود إسرائيليين (غالبًا في مدينة اللد).
ويظهر الكتاب بوضوح أن خلال عام 1948 والسنوات التالية، كان خطاب الجهة الإسرائيلية المتعلق بالنكبة غير مباشر إلى حد ما؛ حيث لم يُستخدم مصطلح “نكبة” مباشرة، لكن تم وصف الأحداث بشكل بسيط ومباشر، وقد ورد وصف للمجازر التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين بدون ملل أو تمجيد سطحي، كما تم تقديم نسخة “أولية” من النكبة بلغة عبرية سلسة، وهو أمر لا يمكن تصوّره في الواقع الحالي.
التراجع والنسيان
يقدم المؤلفان وجهة نظر مختلفة حيال النكبة، حيث عقب فترة قليلة من الكارثة، بدأت ذكرياتها تتلاشى نتيجة انشغال إسرائيل باستيعاب المهاجرين اليهود الجدد وإعاقة عودة اللاجئين الفلسطينيين. واختفى الحديث المباشر والشفاف عن النكبة، حيث بدأت الحكومة تصف اللاجئين بأنهم “مهاجرون غير شرعيين”، وتم تصوير الفلسطينيين -الذين كانوا سكانًا أصليين تم طردهم- بأنهم “غرباء غير شرعيين وغير قانونيين” في سياق الخطاب الإسرائيلي، لاحقًا تحولوا إلى “إرهابيين”.
خلال تلك الفترة (1952-1967)، أصبحت النكبة عنصرًا تاريخيًا داخل السردية الإسرائيلية يهدف إلى تبرير إنشاء “دولة إسرائيل بعد المحرقة”. وأصبح اليهود بفضل معاناتهم التاريخية معفين من الذنب على جرائمهم، وقد ظهرت لأول مرة سردية “لا خيار آخر” تقول: “بعد كل المصاعب التي واجهناها، لم نجد خيارًا آخر سوى ما فعلناه في عام 1948”.
ولا شك في أن العديد من القرى الفلسطينية اختُلى من قاطنيها وهجرت، لكن لم تُهدم جميعها، ومن الخطأ القطعي الادعاء بتدمير القرى خلال حرب عام 1948، إذ دمرت المئات منها في حملة الهدم المكثفة التي قامت بها إسرائيل لهدم منازل الفلسطينيين بين عامي 1965 و1967.
ومع ذلك، في العقد الذي تلا النكبة، بدأت تظهر تلك القرى الفارغة على الخرائط، حيث حملت الخرائط الموروثة عن الانتداب البريطاني ذلك الذي لا يمكن مسحه (القرى الفلسطينية)، وقام رسامو الخرائط الإسرائيليون بإضافة كلمة “هروس” باللون البنفسجي تحت اسم كل قرية للدلالة على الدمار.
أولويات الاحتلال
في الفترة بعد عام 1967 ولمدة عقدين، زادت إسرائيل مساحتها بنسبة 4 أضعاف مما كانت عليه في عام 1949، وشملت تلك المساحات الضفة الغربية وقطاع غزة وجبل الجولان السوري وجزء من شبه جزيرة سيناء المصرية، حيث فرضت الحكم العسكري على سكان تلك المناطق المحتلة. في إسرائيل، نشأ شعور بالفخر بفضل الطفرة الاقتصادية والانتصار الذي حققه على الجيوش العربية خلال 6 أيام فقط. ومع ذلك، لم تجد النكبة أو حق عودة اللاجئين الفلسطينيين مكانًا في النقاش العام؛ إذ تم محو الذاكرة الجماعية للحادثة التي وقعت عام 1948 واصطفت كلمة “احتلال” تحصيصًا مع التوسع الإسرائيلي في عام 1967. وبعد مرور عقدين من الحكم الأول، اختفت النكبة تمامًا من الذاكرة الجماعية لتبدأ فترة جديدة من الاحتلال اعتبارًا من تلك السنة، وفقًا لما جاء في الكتاب.
وفي الفترة من منتصف الثمانينيات وحتى عام 1993، ابتكر المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس مصطلح “المؤرخين الجدد” لوصف الكُتاب الإسرائيليين الذين يقدمون تحليلات نقدية للتاريخ الإسرائيلي. ومع نشر كتاب موريس “ميلاد مسألة اللاجئين الفلسطينيين”، ظهر تحول كبير في المفهوم واعتراف بمعاناة الشعب الفلسطيني.
اتفاقيات أوسلو 1993، أوجعت اللاجئين الفلسطينيين بصورة أخرى، إذ نص الاتفاق على وجود الخط الأخضر كفاصل بين دولة إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقبلية، في حين تم تجاهل قضية اللاجئين وتأجيلها إلى أجل غير معلوم. ومع بداية الألفية الجديدة وباندلاع الانتفاضة الثانية والعنف الذي نشب، بدأ آلاف اليهود بالتفكير في ومناقشة قضية النكبة وجذور الصراع وسبل حله، ومع ذلك، يقول الكتاب إن النظام الإسرائيلي يخوض حربًا مستميتة لمنع أي نقاش حول هذه القضية ويحاول “كبت صوت النكبة”.
مناقشة ضد التسلط
ألتقت إلينور بأن أحدثت سراً محركًا ومصدرًا لشرعية إضافية للمناهضة للتسلط الإسرائيلي؛ إذ “تفتش إسرائيل من خلال مشروع تسلطها الذي تمجَّر على أنه تحرر قومي إلى التصرُف نيابةً عن جميع اليهود”.
وأفاد إيتان بأنهما زارا الكيبوتس “باخان” أثناء كتابتهما للكتاب، وعلما تذكارًا قد نُصب لمُراوغة 1967 التي تجسدت فيها العملية بأكملها، حيث كانوا يشهدون حروبًا ويُسابقون نحو المخابىء والقذائف تَتَناثر وتستلقط. ثم استفسرها إلينور عن قِصف الكيبوتس، فأجاب: “لم يعاني كثيرًا من القصف، أُوهمنا في ذلك الوقت أن إسرائيل تُتعرض لهجوم، لكنني أدركتُ بعد زمن طويل أن إسرائيل كانت بادئة الحرب، واكتشفتُ أن الرماية كانت من قِبل مدفعيّة إسرائيلية تجاه الضفة الغربية التي كانت تمتلكها الأردن، بإستهداف قرية “الشويكة” الملتصقة بباخان أقل من كيلومتر واحد بنفس الجانب الحدودي”.
تابع إيتان “لقد كُنَّا مندهشين للغاية، وكذلك والدي، حيث وُجِدَ على التذكار مدفعًا مع لافتة مُذكور عليها مرور حربي على الجانب الإسرائيلي, مرتبطة كذلك بصورة لـ3 جنود في خندق وكان والدي واحدًا منهم، شموئيل” ثم أضاف “أُوشك على التَوتر ففي الصورة، والدي كأنه يهيم سلاحه نحو الخصم، غير أنني بيقين أعلم أن المنظر كان تمثيليًا”.
وأضاف “فعلى الحقيقة لم يخوضوا قتالًا وإني أعلمُ دَرا إنهم لم يُطلقوا حتى رصاصة واحدة، وكذلك لم يُستهدف الكيبوتس سواء من فلسطينيين أو أردنيين، ويُشير إلى أن المُصوِّر طَلَب منهم اتخاذ وِضعيّات للتصوير، وحين سألتُ والدي أخبرني أنه لـَا يتذكر شيئًا من ذلك اليوم.”.
استنكر إيتان “هذا التَهويل والوهم المتَأصل بالذاكرة المشتركة لهذا النَزاع التَّوسُّعي”، ردت إلينور “لم تَكُ حربًا توسعية فقط، بل كذلك حرب استعمارية، فإنَّ حرب 1967 كانت استمرار لـ1948، إنها ببساطة خطوة متعقِّلة في مُخطط الاستعمار الإسرائيلي المُستمر”.
أسرت إلينور بتشرُّخها بين أرضين “ففي يومًا ما علينا أن نُخبر ابننا بأن جده فاروق نُزح من منزله أثناء النزاع الَّذي شاركت جده شموئيل فيه”، ووردَت الحكاية “إنّ أبي فارُوق وُلِد في قرية المنصورة السوريّة الّتي تقع في هضبة الجولان عام 1934، وهي واحدة من قرى الشُركس الـ12 التي أُقيمت في هضبة الجولان في القَرن التاسعَ عشر تحت حُكم العُثماني بعد التنظيم الّذي تَعرض له الشُركسيون من يد القيصرية الروسية الّتي طَرَدت الناجين من بِلادهم في القوقاز.. لذا، أبي سوري شُركسي مسلم يعشُ اليوم مع أمي (اليهودية) في فرنسا”.
جولان المنصورة
وأعقب إيتان: قرية المنصورة واحدة من 200 موقع أدمر بعد إحتلال هضبة الجولان عام 1967″، رَدّت إليونور: “بل 195 موقع حرفي وخلافا للاستدلال السائد بأن هضبة الجولان “كانت عُريً حُصُّ إلى قواعد عسكرية” تم طَرد نحو 130 ألف شخص بِحدود أَرَضهم أثناء إِحتلال إسرائيل للجولان.
وقبل بداية النزاع بعامين، تضيف إيتان، انتقل والدي إلى العيش في القُنيطرة التي تَهُدمت على نطاق واسع أثناء النزاع. كُنتُ أتعَاني من هذا الحُمل النفسي الجديد منذ الصغر، إذ كنتُ أُشعر بالحاجة لمعرفة تفاصيل هذا التاريخ قبل أن يُمحى لكن والدي وَجدَ صعوبة في مُشاركة قصته معي، ويبدو أننا تَراقب لحظة انْضمامك إلى عائلتنا ليجد ما يُحَرِّكه لاسترجاع قصصه المفاجئة وروايتها.
وأفاد إيتان: منذ أن التقيتِ بكِ ودخلت بحياتي بتصور مُختلف، أصبحت أرى الأمور بوضوح حول المشروع الاستعماري الذي أنا لا مفر منه، فأنا عنصراً منه مشاغلي حيثما أراد، فَأنا صُولج ومُحتل سابق ومستوطن. تصبح ذلك جليًّا بالنسبة لي بعد مُقابلتك.
وعلى الرغم من أنك تَقيمين في قلب تل أبيب، فالدولة الإسرائيلية هي الجهة التي طردت أباكِ، وأسهمت باستقدام والدي لهنا ليكون جُزءًا من “ازدهار الصحراء”، الصحراء التي لا تُوجد إلا في تصوّر النظام الاستعْماري الإسرائيلي الذي طَرَد والدك والعديد من الناس قبله وبعده.
وختم إيتان النقاش الطويل قائلاً: هنا جزء من تاريخك وتاريخي، وبالطبع لا يُمكن لجميع الإسرائيليين أن يَضْم صفنا. وفي حال حُصلت قصتنا قبل عام 1948 أو قبل ظهور الصهيونية، كانت قصة اعتياديه كمئات القصص اليومية.
وأضاف “أما اليوم فنحن كثنائين يَختصان عن القائمة؛ فأنا كيبوتسي وُلِدت في الأرجنتين وجندي سابق ومستوطن رُغم غَمضه، وأنتِ يهودية-مسلمة أنوثية جذرية لن تفضل استعمال امتيازاتُها كيهودية لتُصبح مواطنة إسرائيلية ليُتاح لكل اللاجئين استعادة حق العودة.
ثمة أماكن كثيرة حيث يُمكن لقصتنا أن تكون بها أقل انحرافًا عن المألوف، ولكني أتمنى، يتحدث إيتان، أن تصبح قصتنا يومًا ما قصة حب تقليدية معهودة. وأنا بفارغ الصبر أنتظر اليوم الذي يُتيح لنا الخروج من طبيعة تلك الهوية الاستيطانية المُتغَطرسة على أرض غيرهم ومساير سيرهم.
المصدر : الجزيرة
ألتقت إلينور بأن أحدثت سراً محركًا ومصدرًا لشرعية إضافية للمناهضة للتسلط الإسرائيلي؛ إذ “تفتش إسرائيل من خلال مشروع تسلطها الذي تمجَّر على أنه تحرر قومي إلى التصرُف نيابةً عن جميع اليهود”.
وأفاد إيتان بأنهما زارا الكيبوتس “باخان” أثناء كتابتهما للكتاب، وعلما تذكارًا قد نُصب لمُراوغة 1967 التي تجسدت فيها العملية بأكملها، حيث كانوا يشهدون حروبًا ويُسابقون نحو المخابىء والقذائف تَتَناثر وتستلقط. ثم استفسرها إلينور عن قِصف الكيبوتس، فأجاب: “لم يعاني كثيرًا من القصف، أُوهمنا في ذلك الوقت أن إسرائيل تُتعرض لهجوم، لكنني أدركتُ بعد زمن طويل أن إسرائيل كانت بادئة الحرب، واكتشفتُ أن الرماية كانت من قِبل مدفعيّة إسرائيلية تجاه الضفة الغربية التي كانت تمتلكها الأردن، بإستهداف قرية “الشويكة” الملتصقة بباخان أقل من كيلومتر واحد بنفس الجانب الحدودي”.
تابع إيتان “لقد كُنَّا مندهشين للغاية، وكذلك والدي، حيث وُجِدَ على التذكار مدفعًا مع لافتة مُذكور عليها مرور حربي على الجانب الإسرائيلي, مرتبطة كذلك بصورة لـ3 جنود في خندق وكان والدي واحدًا منهم، شموئيل” ثم أضاف “أُوشك على التَوتر ففي الصورة، والدي كأنه يهيم سلاحه نحو الخصم، غير أنني بيقين أعلم أن المنظر كان تمثيليًا”.
وأضاف “فعلى الحقيقة لم يخوضوا قتالًا وإني أعلمُ دَرا إنهم لم يُطلقوا حتى رصاصة واحدة، وكذلك لم يُستهدف الكيبوتس سواء من فلسطينيين أو أردنيين، ويُشير إلى أن المُصوِّر طَلَب منهم اتخاذ وِضعيّات للتصوير، وحين سألتُ والدي أخبرني أنه لـَا يتذكر شيئًا من ذلك اليوم.”.
استنكر إيتان “هذا التَهويل والوهم المتَأصل بالذاكرة المشتركة لهذا النَزاع التَّوسُّعي”، ردت إلينور “لم تَكُ حربًا توسعية فقط، بل كذلك حرب استعمارية، فإنَّ حرب 1967 كانت استمرار لـ1948، إنها ببساطة خطوة متعقِّلة في مُخطط الاستعمار الإسرائيلي المُستمر”.
أسرت إلينور بتشرُّخها بين أرضين “ففي يومًا ما علينا أن نُخبر ابننا بأن جده فاروق نُزح من منزله أثناء النزاع الَّذي شاركت جده شموئيل فيه”، ووردَت الحكاية “إنّ أبي فارُوق وُلِد في قرية المنصورة السوريّة الّتي تقع في هضبة الجولان عام 1934، وهي واحدة من قرى الشُركس الـ12 التي أُقيمت في هضبة الجولان في القَرن التاسعَ عشر تحت حُكم العُثماني بعد التنظيم الّذي تَعرض له الشُركسيون من يد القيصرية الروسية الّتي طَرَدت الناجين من بِلادهم في القوقاز.. لذا، أبي سوري شُركسي مسلم يعشُ اليوم مع أمي (اليهودية) في فرنسا”.
جولان المنصورة
وأعقب إيتان: قرية المنصورة واحدة من 200 موقع أدمر بعد إحتلال هضبة الجولان عام 1967″، رَدّت إليونور: “بل 195 موقع حرفي وخلافا للاستدلال السائد بأن هضبة الجولان “كانت عُريً حُصُّ إلى قواعد عسكرية” تم طَرد نحو 130 ألف شخص بِحدود أَرَضهم أثناء إِحتلال إسرائيل للجولان.
وقبل بداية النزاع بعامين، تضيف إيتان، انتقل والدي إلى العيش في القُنيطرة التي تَهُدمت على نطاق واسع أثناء النزاع. كُنتُ أتعَاني من هذا الحُمل النفسي الجديد منذ الصغر، إذ كنتُ أُشعر بالحاجة لمعرفة تفاصيل هذا التاريخ قبل أن يُمحى لكن والدي وَجدَ صعوبة في مُشاركة قصته معي، ويبدو أننا تَراقب لحظة انْضمامك إلى عائلتنا ليجد ما يُحَرِّكه لاسترجاع قصصه المفاجئة وروايتها.
وأفاد إيتان: منذ أن التقيتِ بكِ ودخلت بحياتي بتصور مُختلف، أصبحت أرى الأمور بوضوح حول المشروع الاستعماري الذي أنا لا مفر منه، فأنا عنصراً منه مشاغلي حيثما أراد، فَأنا صُولج ومُحتل سابق ومستوطن. تصبح ذلك جليًّا بالنسبة لي بعد مُقابلتك.
وعلى الرغم من أنك تَقيمين في قلب تل أبيب، فالدولة الإسرائيلية هي الجهة التي طردت أباكِ، وأسهمت باستقدام والدي لهنا ليكون جُزءًا من “ازدهار الصحراء”، الصحراء التي لا تُوجد إلا في تصوّر النظام الاستعْماري الإسرائيلي الذي طَرَد والدك والعديد من الناس قبله وبعده.
وختم إيتان النقاش الطويل قائلاً: هنا جزء من تاريخك وتاريخي، وبالطبع لا يُمكن لجميع الإسرائيليين أن يَضْم صفنا. وفي حال حُصلت قصتنا قبل عام 1948 أو قبل ظهور الصهيونية، كانت قصة اعتياديه كمئات القصص اليومية.
وأضاف “أما اليوم فنحن كثنائين يَختصان عن القائمة؛ فأنا كيبوتسي وُلِدت في الأرجنتين وجندي سابق ومستوطن رُغم غَمضه، وأنتِ يهودية-مسلمة أنوثية جذرية لن تفضل استعمال امتيازاتُها كيهودية لتُصبح مواطنة إسرائيلية ليُتاح لكل اللاجئين استعادة حق العودة.
ثمة أماكن كثيرة حيث يُمكن لقصتنا أن تكون بها أقل انحرافًا عن المألوف، ولكني أتمنى، يتحدث إيتان، أن تصبح قصتنا يومًا ما قصة حب تقليدية معهودة. وأنا بفارغ الصبر أنتظر اليوم الذي يُتيح لنا الخروج من طبيعة تلك الهوية الاستيطانية المُتغَطرسة على أرض غيرهم ومساير سيرهم.