في أحد أيام الصيف في طهران دخل دبلوماسي غربي إلى البازار الكبير برفقة مترجم إيراني، وبين ضجيج الباعة، وروائح التوابل، قال المترجم مبتسماً: «هنا تتعلّم إيران التفاوض… البازار هو مدرستنا الأولى».
والبازار في الثقافة الإيرانية ليس مجرد سوق شعبية، بل تتشكل فيه عقلية المقايضة… مساومة طويلة، إخفاء للأسعار، تكتيكات تفاوضية، كالتظاهر بالانسحاب، واللعب على الأعصاب.
قصة البازار هذه أوردها عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني، في كتابه «قوة التفاوض» الصادر في مايو (أيار) 2024، حيث تناول فيه مراحل التفاوض السياسي، والدبلوماسي، مستعرضاً كيف تشكّلت ثقافة التفاوض الإيرانية على النمط البازاري، وخاصة أنه ابن أحد تجار السجاد في طهران.
وقدّم عراقجي نفسه باعتبار أنه امتداد لهذه المدرسة، موجّهاً رسالة ضمنية للأميركيين أن أبناء البازار لا يقدمون شيئاً بلا مقابل، ولا يكشفون أوراقهم منذ البداية.
هذه الصورة كانت حاضرة مع بداية المفاوضات الأميركية – الإيرانية يوم السبت الماضي التي استضافت العاصمة العُمانية مسقط أولى جلساتها بين المبعوث الأميركي ستيفن ويتكوف، وعباس عراقجي.
ويبدو أن تلك الجلسة والجلسات المقبلة لن تخلو من العرض، والرفض، والمساومة، والمناورة، لكن ما غاب عن عراقجي أن الرئيس دونالد ترمب لم يكن من محبّي المساومات التقليدية، بل عاشق للصفقات الواضحة، يعرضها في العلن، ويعلن نتائجها بلا مواربة، هو رجل يفضل الحسم على التلكؤ، والنتائج على التفاصيل، ولا يقرأ من كتاب البازار، وهو ما أكد عليه مبعوثه ويتكوف أنه لن يتم أي اتفاق مع إيران إلا على طريقة ترمب.
واليوم، ومع التحولات الإقليمية الجذرية التي أعقبت أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، مروراً بانهيار بنية «حزب الله»، ومقتل شخصياته المحورية، مثل حسن نصر الله، وهاشم صفي الدين، وسقوط نظام بشار الأسد، وتسلم الرئيس الأميركي دونالد ترمب مفاتيح البيت الأبيض؛ يُطرح سؤال وبقوة: هل يمكن لإيران أن تتغيّر؟ وهل تستطيع مغادرة مربع «تصدير الثورة» لتلتحق بدول تبحث عن التنمية، والازدهار بدل التمدد الآيديولوجي، والهيمنة الإقليمية؟
قد تبدو الإجابة ضبابية، لكنها ليست مستحيلة، فاستقرار إيران ليس مصلحة إيرانية داخلية فحسب، بل هو مصلحة إقليمية بالدرجة الأولى. فأي زلزال سياسي أو أمني في طهران لا تتوقف تداعياته داخل حدودها، بل تمتد إلى المنطقة. ولهذا فإن الإصلاح -إن حصل- لا يمكن أن ينطلق من الشارع الثائر، بل من قمة الهرم السياسي.
لقد أثبتت تجارب التاريخ أن الإصلاح حين يبدأ من الأعلى يكون أكثر عمقاً، وأطول عمراً، بينما الثورات التي تبدأ من الأسفل تنتهي غالباً بتفكك الدولة لا بنائها. الرهان اليوم إذن لم يعد على مهارة المفاوض الإيراني داخل غرف الاجتماعات، بل على شجاعة القيادة في طهران؛ لإعادة ترتيب أولويات الدولة، والانتقال من خطاب البازار إلى منطق الدولة الحديثة.
وهنا يُطرح السؤال الجوهري: هل تفعلها طهران؟ هل تتجاوز الحسابات العقائدية لتُعلي مصلحة المواطن الإيراني على مشاريع النفوذ العابر للحدود؟
الكرة اليوم ليست فقط في ملعب واشنطن، أو العواصم الأوروبية، بل في قلب طهران، ربما يكون وقت المساومة قد ولّى… وحان زمن التحول إلى دولة طبيعية تؤمن بالحدود، وبالحقوق، وبالتنمية، والازدهار.
رابط المصدر