صناعة الثقة بالانتخابات… كيف؟

Photo of author

By العربية الآن


مع اقترابنا من موعد إجراء الانتخابات التشريعية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وقبل أي حديث عن المشاركة من عدمها، أو شكل التحالفات الانتخابية والسياسية، وبمعزلٍ عن النتائج وحجم المشاركة الشعبية، لا بدّ لنا أن نقف مليّاً عند النظام الانتخابي. وقفة تستوجب التأمّل وتسجيل الملاحظات، خصوصاً أن هذه الدورة هي السادسة منذ سقوط الديكتاتورية، ومن ثم عليها أن تتسم بالمهنيّة والحرفيّة والحرص الكامل على التمثيل الصحيح لإرادة الناخبين، بعيداً عن مصالح الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة.

يتمثّل معدن الديمقراطية بالعملية الانتخابية، بالثقة والإيمان المتبادل بين المُنتخِبِ والمُنتَخَب. وفي حالتنا العراقية، لا يؤمن المُنتَخَب بهذه العملية؛ إذ يراها فرصةً لإضفاء الشرعية على نفسه، من خلال قانونٍ يُشرّعه على قياسه. لا يؤمن المُنتَخَب بالقيم الديمقراطية ولا بآلياتها ولا كيفية تطبيقها، بل يراها درعاً تدرّ عليه المكاسب والأرباح، ولذلك تراه يُشرّعُ القانون لا يترجم التمثيل الصحيح لإرادة الشعب، بل لإرادة الأحزاب الحاكمة، التي تسعى دائماً – وللأسف – إلى قوننة ما يضمن لها جمع أعلى قدرٍ ممكنٍ من الأصوات وأكثر عددٍ ممكنٍ من المقاعد. نظامنا الانتخابي يعاني من تقلبات مستمرة في قوانينه، حيث تُجرى تعديلات «دورية» – قبل كل دورة انتخابية – بما يتوافق مع مصالح الأحزاب والقوى السياسية صاحبة «الرأي» الأقوى برلمانيّاً.

ثمة تحديات عدّة في نظامنا الانتخابي حالياً، ويمكن إيجازها بنقاط ثلاث؛ الأولى: تبدّل القوانين دوريّاً، والثانية: إهمال المتغيّرات الطبيعيّة، والثالثة: غياب القواعد الثابتة. وإذا أردنا الحديث عن هذه النقاط، سريعاً، فإن تعديل القانون قبل كل دورة، بناءً على رغبة الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة يتيح لها إمكانية إعادة تشكيل المشهد مجدداً؛ لأنها هي من تحدّد قواعد اللعبة بما يخدم مصالحها، وهذا يعني تلقائيّاً خللاً تمثيلياً للإرادة الشعبية. كذلك، فإن إهمال المتغيّرات «الطبيعيّة»، أي الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي تطرأ على البلاد مع تقادم الزمن، يجعل من توزيع المقاعد النيابية وآلياتها، غير متناسبة مع عدد السكان الفعلي وتوزيعهم الجغرافي. وهذا لا يعني رفع عدد المقاعد النيابية، والحديث ليس دعوة إلى ذلك، بل إنها مسألة توجب الالتفات إليها.

تقودنا هذه النقطة إلى النقطة الثالثة، وهي غياب القواعد الثابتة؛ في العراق هناك قاعدة ثابتة للتمثيل وهي نائبٌ لكل مائة ألف مواطن. هذه القاعدة تختلف بين دورةٍ وأخرى. إذ يقع الخلاف في كيفية توزيع المقاعد واحتساب الأصوات وآليات ذلك، وهذا أمرٌ يُفسح المجال للتلاعب في النتائج، ويؤدي تارةً إلى «تضخيم» تمثيل البعض واستبعاد البعض الآخر تارة، ما يعني تفكيك العملية الديمقراطية وتفريغها. وهنا، لا بدّ من تحديد آليات ملائمة – ثابتة، باستطاعتها مواكبة المتغيّرات «الطبيعيّة» لا السياسية.

أمام هذه التعقيدات التي تُثار في اللقاءات المغلقة، ويخرج بعضها إلى الأضواء، ثمة دعوات جديّة إلى اعتماد نظامٍ انتخابي ثابت، يُلزم الحكومات كافة بالالتزام به، على أن يكون مبنيّاً على معايير موضوعية. لست أيضاً في صدد نقاش شكل القانون وطبيعته، بل أسعى إلى تحديد مواصفات القانون العامة، بناءً على لقاءات واتصالات أجريتها مع مختلف المعنيين في المشهد السياسي.

على القانون المنصف أن يتّسم بالقدرة على ضمان أكبر قدرٍ تمثيليٍّ للأصوات في البرلمان، وهذا عادةً ما يحقّقه النظام النسبي. وعليه، لا بدّ من الإشارة إلى النقاط التالية:

– توزيع المقاعد يكون وفق معايير موضوعية، على أن يُقسّم العدد الكليّ إلى ثلاثة أقسام، الأوّل (وهو السواد الأعظم) لأصحاب العدد الأكبر من الأصوات، والثاني كوتا النساء والأقليّات، والثالث يكون عدداً محدداً من المقاعد التعويضية لضمان تحقيق العدالة النسبية على المستوى الوطني، بحيث تُعوّض أي فروق ناتجة عن التوزيع السكاني غير المتوازن.

– تقسيم البلاد إلى دوائر انتخابية ثابتة لا تتغيّر، تتناسب مع عدد سكانها، على أن تُراجع هذه الدوائر بشكل دوريٍّ، وتحديداً عند ظهور تغيّرات ملموسة في الكثافة السكانية أو التحولات الاجتماعية.

– من ننتخب؟ المرشح أم الحزب؟ هذا النقاش يحتاج إلى حوارٍ معمّق بين الأحزاب والقوى السياسية والحكومة والنخب الاجتماعية على اختلافها. حوارٌ يُحسم فيه هذا الجدل؛ لأنه – وفي كثيرٍ من الأحيان – قد تُغيّب الإرادة الشعبية التي تنحو باتجاه وجهٍ محلّي لصالح الإرادة الحزبية النافذة، وأحياناً تُكسر، ولنا في تجربة انتخابات 2021 دليلٌ على تمسّك الناخبين بالمستقلين مقابل المرشحين الحزبيين أو التكتلات الانتخابية.

وفي الحالتين كلتيهما يتصدّر مشهد اليوم التالي احتقانٌ وتوتّرٌ ينطلق من المحلّة فالمحافظة فالمركز… ثمة من يقول إن التصويت لحزب سياسي بدلاً عن التصويت لمرشح فردي يعزز من استقرار العملية الانتخابية والسياسية لاحقاً، لكن – في المقابل – ثمة من يدعو إلى تقديم كل حزب لقائمة مرشحين محددةً مسبقاً لكل دائرة انتخابية، وإعطاء الناخبين الفرصة للتصويت التفضيلي داخل هذه القائمة، وبذلك تنتهي حقبة سيطرة «القائمة» الواحدة على الإرادة الشعبية، وتُمنح المساحة اللازمة لمشاركة شخصيات مستقلة بعد أن تجتاز العتبة.

– لا بدّ من الإشارة إلى «العتبة»، أو الحاصل الانتخابي، وهذا يوجب تحديد عتبة ثابتة تضمن دخول الأحزاب والمستقلين – على حدٍّ سواء – بعد أن تنال عدداً/ نسبة معينة من أصوات الناخبين.

– النقطة المهمة، أيضاً، تكمن في العمل على ضبط الدعاية الانتخابية بكل أشكالها، ورفض استغلال موارد الدولة لمصالح شخصيّة، أو إرهاق خزينتها بشراء الأصوات – بشكلٍ مبكرٍ وبحجج وأعذارٍ مكشوفة.

مواصفات هذا القانون تساهم في تعزيز ثقة المواطن بالعملية الانتخابية أوّلاً والعملية السياسية تالياً، وهذا يسمح بتثبيت دعائم الاستقرار السياسي، خصوصاً أن تحديد أحجام الكتل النيابية ووزنها الجماهيري يساهم في تحقيق الاستقرار، ويدعم عملية صنع القرار الوطني، بدءاً من اختيار رئيس الوزراء وتشكيلته الوزارية ومواكبته في عملية الدعم أو المعارضة والتقويم والتقييم والمحاسبة. فالتمثيل العادل لإرادة الناخب يمنح العملية الديمقراطية مزيداً من الشفافية والقدرة على استيعاب الأجيال المقبلة وإدخالها في عملية التطوير والبناء للعملية السياسية التي نتفق جميعاً على أنها – للأسف – عملية مشوّهة.

هنا، لا بدّ من العروج على تجربة 2021، التي وُصفت بأنها الانتخابات الأكثر نزاهةً وشفافية بتاريخ العراق الحديث. أودّ التطرق إلى نقطة مهمة تتعلق بالإطار القانوني الراعي للعملية الانتخابية، وهي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وإصراري على أن تكون – رئيساً وأعضاء – من خارج المنظومة الحزبية، وأن تُسند تلك المهام إلى قضاة يشهد لهم بنزاهتهم، ويتم اختيارهم بالتنسيق مع المؤسسة القضائية. هذا التوجه يعزّز من عملية الثقة، ويطمئن المرشّح والجهة الداعمة له والناخب على حدٍّ سواء، أما إذا أُسندت «المفوضية» – كما اليوم – إلى الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة، فهذا محل تساؤل واستفسار كبيرين.

ختاماً، إن استقرار قواعد النظام الانتخابي وتطبيقه بناءً على معايير موضوعية وثابتة يعد ركيزة أساسية لتحقيق ديمقراطية ناضجة، وبذلك يصبح النظام مرآة واقعية لإرادة المجتمع وتوجهاته، ويتكيف مع المتغيرات الديموغرافية والاجتماعية على أساس علمي محايد. إصلاح النظام الانتخابي بهذا الشكل ليس مجرد خيار سياسي، بل هو ضرورة لضمان مستقبل ديمقراطي أكثر عدالة واستقراراً للعراق. وللحديث تتمة في الزمان والمكان المناسبين.

* رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.