نشأ تنظيما مؤامراً لإسقاط سلطة العباسيين فصلبوا وجسدوا وأشعلوا.. هل الحلاج زنديق متمرّد أم رائد للتصوف السياسي؟

Photo of author

By العربية الآن



نشأ تنظيما مؤامراً لإسقاط سلطة العباسيين فصلبوا وجسدوا وأشعلوا.. هل الحلاج زنديق متمرّد أم رائد للتصوف السياسي؟

صور من التاريخ الإسلامي - علماء الحنابلة

<

div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>

ثلاث علامات من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حقٌّ في الخلود: فرط الإعجاب من محبيه ومريديه؛ وفرط الحقد

ابتعد عن الغيرة والانتقاد؛ هناك سرّ ولغز يحيطون به كأنه مخلوق فائق الجمال المحير للوصف..، يُنسبون تلك القوة في بعض الأحيان إلى التفوق الإلهي، وأحيانًا أخرى إلى السحر والتنجيم”!!

التاريخ الإسلامي - تراث
فكرة الخلود المبهمة
الكثيرون انتقدوا الحلاج وحتى أدين بالزندقة من قبل جماعة من العلماء في عصره، قائلين: “قُـتِـل الحلاجُ بسيف الشرع على الزندقة”، وألف الإمام الذهبي في “زندقته” أقوال تتهمه كالقول “جمعتُ بلاياه في جزأين”. وكان هناك كتب أخرى تشير إلى أمور غامضة حول شخصيته، حتى قد تم تصويره من قبل البعض كـ “إله”، ونُسبت إليه أقوال وأفعال ملتبسة حيث تُخفى حقيقتها حتى على عائلته؛ كما ذكر ابنه حمد بن الحلاج: “ثم دعوا الناس لشيء لم أستوعب مضمونه”؛ وقد وصف الإمام الذهبي ابن باكَوَيْه بأنه “الإمام الصالح المحدث شيخ الصوفية”.

كان الحلاج شخصية محيّرة لدارسيه وأصبحت نصوصه تحوي رموزًا تحير العقول، فحتى الذهبي تناول ذلك في ترجمته وشرح الخلافات في تقييمه، مع توجهه نحو إثبات زندقته. فقد قال الذهبي: “فتفكر -يا عبد الله- في شخصية الحلاج الذي كان من قادة القرامطة ودُعاة الزندقة، واعتبر…؛ إذا ظهرت لك علامات بأن مشارب هذا الرجل تعارض الإسلام، ميل إلى رفضه؛ وإذا ظهرت لك علامات بأنه… مُصرَّح ومُخلص، فاحتكم إلى إسلامك وتوجه بالدعاء ليرشدك إلى الحق…؛ وإذا ترددت ولم تُدرك حقيقته واقتنعت ببراءتك من الاتهامات، ستسكن نفسك ولن يسألك الله عن ذلك على الإطلاق”.

الذهبي، الذي اشتهر بتقديم أحكام صارمة تجاه الشخصيات المثيرة للجدل في التصوف، لم يكن متسامحًا تجاه الحلاج كما أهمل ما ذكره -في جزء من نصه- بخصوص الرحمة تجاهه، وتجاهل القسم الأكبر الذي قال فيه: “إن مَن كان جزءًا من الأمة…”

“يُعرَض عنه”، وجماعة من الأمة تُحتفي به وتكرمه، وفئة ثالثة تقف عكسه وتتجنب مُدحه؛ إنه شخص يجب أن يُبحَث عنه، ويكفَّ عن الحكم عليه، ويُؤمن له بالمغفرة، لأن إيمانه واضح وشك في توجُّهه؛ وبهذا يستقيم ويتطهر قلبك من الصعوبات التي تعتري المؤمنين”.

%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae %d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a %d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%bab 6 %d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d9%8a%d8%b1%d8%a9

نماذج شهادة
الحلاجُ عابد تسامح، ومن ادعى أنه رهباني تطبيقي أو من رهبان الفلاسفة أو قسَّاة فقد تسلسل الفهم، وتجاهل البراهين المبينة؛ هذه هي الحجة التي نسلط عليها الضوء هنا ونقدمها من زوايا عدة: أولها: منابع عبادته؛ فهي منابع واضحة لا خلاف في وضوحها بحسب شهادة الذهبي نفسه.

فأحد المعلمين الأوائل للحلاج كان سهل بن عبد الله التستري (ت 283هـ/896م)؛ هذا ما قاله عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: “رئيس العارفين.. العابد الصوفي..، له عظات مفيدة، ونصائح جيدة، وقواعد قوية في السبيل”. ثم درس عن عمرو بن عثمان المكي (ت نحو 300هـ/912م) الذي وصفه الذهبي بأنه: “القائد الروحاني شيخ الصوفيين أبو عبد الله المكي الزاهد”. كما كان من تلاميذ الحلاج أبو القاسم الجنيد البغدادي (ت 298هـ/911م) المعروف بدوره في التصوف الساميّ.

ومن دُرَّّايه أيضا أبو الحسن النوري (ت 295هـ/908م) الذي وصفه الذهبي في ‘سِير أعلام النبلاء’: “قائد الطائفة بالعراق، وأعقلهم بأسرار الحقائق، وله عبارات دقيقة يتبعها من أنحرف من الصوفية”. وكان النوري قد اعتقل في زمن الخليفة المعتضد (ت 289هـ/902م) بتهمة الزندقة، وعندما جرى محاكمة النوري أمام القاضي إسماعيل بن إسحق المالكي (ت 282هـ/895م) وجرى النقاش، قال القاضي: إن كان هؤلاء الناس زنادقة فليس في العالم مؤمن”!! وهو ما تعلمناه عن سيرة الحلاج أيضاً.

ثانيا: صحة عقيدة شهود الحلاج ووضوح ولائهم. وبحسب الذهبي؛ فقد قال السلمي (النيسابوري مؤلف ‘طبقات الصوفية‘ المتوفى سنة 412هـ/1022م): “غالبية المعلمين رفضوا الحلاج وإنكاره، ورفضوا اعتباره شخصية في التصوف، واستجاب لذلك ابن عطاء (ت 309هـ/921م)، وابن خفيف (ت 371هـ/982م)، والنصرآباذي (ت 367هـ/978م)”. فمن هؤلاء المعلمين الذين أقرُّوا بالحلاج في طبقات قادة التصوف ورفضوا ادعاءه بالزندقة والكفر؟ فإليك تراجمهم لدى قادة المحدّثين وأولهم الذهبي نفسه:

أولهم يذكر وفاته هو أبو العباس ابن عطاء البغدادي الذي انتقد عليه الذهبي الدفاع عن الحلاج، لكنه رُمِّز بأنه “الزاهد العابد المنصوح”. وبحسب الذهبي؛ فإن ابن عطاء “امتُحن بسبب الحلاج” فكانت وفاته بسبب تعذيب السلطات إياه عقوبةً لدعمه للحلاج. والخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) يقول في ‘تاريخ بغداد‘: “استفتح ابن عطاء بخطبة الحلاج فقال بكلامها، فكان [هذا] سبب وفاته”! وإبان ابن خفيف؛ وهو محمد بن خفيف الضبي الشيرازي الشافعي شيخ ابن باكَوَيْه الذي سبق أنه كتب كتاباً خاصًا لشرح الحلاج.

ونقل ابن عساكر –في كتابه ‘تبيين كذب المفتري‘- عن السلمي أنه وصف ابن خفيف فقال: “هو اليوم شيخ أراب الشيوخ..، فقد كبر علمياً ونضج حالياً وزمانياً…، رأى الحسين بن منصور (= الحلاج)، وهو من أفضل شيوخ العلم الظاهر ملتزمًا بمعارف الشريعة من الكتاب والسنة”. وصف الذهبيّ ابن خفيف في ‘السِّيَر’ بأنه: “الشيخ الإمام العارف الفقيه القدوة.. ذو الفنون.. شيخ الصوفية”، وأنه “جمع بين العلم والعمل وارتفع سندُه وتمسّك بالأعراف، وتزيّن بطول عمره بالطاعة”. وفيما يتعلق بابن بكويه، قال السبكي في ‘طبقات الشافعية‘: “وصل إلى مراتب لم يصلها أحد من الخلق في المعرفة والجاه عند الخاص والعام، وحاز على شرف العصر كهدف لجميع القارئين“.

صور من التاريخ الإسلامي

مُدافع عنيد
إذا علمت حالة ابن خفيف هذه فعليك أن تعرف رأيه في الحلاج الذي التقاه؛ فقد قال عنه: “رجلٌ من المسلمين، فإن كان الذي شاهدته منه في الحبس كان توحيدًا عنده فلا يكون”في هذه الحياة “التوحيد”! وقد ذكر الشيخ الجنيد الحلاجَ بشكل غير محبب في جلسته -سنوضح لك فيما يلي السبب وراء تحول الجنيد من موقع الأستاذ إلى موقع ينتقده- ثم خرج ابن خفيف للدفاع عن الحلاج، وقال: “يا شيخ لا تطول! إجابة الدعاء والكشف عن الأسرار ليس من تقنيات الغش والعبث السحري”.

وورد عن ابن كثير (ت 774هـ) في “البداية والنهاية”: “ألقى أبو عبد الله ابن خفيف قصيدة للحلاج:
سُبْحان الذي أظهر سِرَّهُ ** سَناء لاهوته النافذة
ثم أظهر في خَلْقِه ظاهرًا ** في صورة الآكل والشارب
حتى لقد رأى خلقه ** كلْحظةُ الحاجب بالحاجب
فقال ابن خفيف: هل من يتهم بهذا نقمة الله! قيل له: هذه من شعر الحلاج، قال: رُبَّ على تقدير”.

ومن بين المعدودين الذين تأيدوا للحلاج: النصراباذي؛ الذين قالوا: “إن كان بعد المؤمنين موحدٌ ف[هو] الحلاج”، وفقًا لما نقله السلمي النيسابوري في “طبقات الصوفية”. ووصف النصراباذي بأنه “كان رمزًا للصوفية بنيسابور، يجمع بين الدليل والتقليد”.

ومن قام بتمجيد الحلاج: أبو العباس ابن سُريج (ت 306هـ) شيخ الشافعية في بغداد، الذي كان يُعرف باسم “الشافعي الصغير”، كما أشار السبكي في “طبقات الشافعية”. وكانت مكانته في السنة أقوى من أن تطالت به أي ادعاءات زائفة. فرفض ابن سريج المشاركة في الحملة التي قادها الإمام أبو بكر محمد بن داود الظاهري للترويج لفكرة كفر الحلاج وضرورة قتله، كما وردت إشارات من الذهبي -في “السير”- تشير إلى ذلك.

ورد ابن زنجي (ت 334هـ) في رسالته “ذكر مقتل الحلاج” شهادة ابن سُريج حول الحلاج بأنه كان حافظًا للقرآن، عليمًا به، ماهرًا في الفقه، ملمًا بالحديث والأحاديث، صائمًا دائمًا، قائمًا قليلاً، ملهوفًا بالعظة والبكاء، ويتحدث بكلام يفوق فهمي، لذا لا يمكنني أن أصدر حكمًا بكفره”. وفي تاريخه، أشار ابن الوردي المعري الكندي (ت 749هـ) إلى أن أبو العباس بن سُريج وصف الحلاج قائلاً: “كان هذا الرجل غامضًا في طباعه ولا أجد ما أقول فيه”.

تأييد الحنابلة:
كمترجميه، ربما كان أبو عبد الرحمن السلمي -في “طبقات الصوفية”- وابن باكويه أوائل من ترجموا لأبي منصور الحلاج. السلمي في ترجمته اجتنب أي شيء يمكن أن يجعله يحكم باعتباره زنديقًا أو يرفضه، وتجنب ذكر الخوارق والمعجزات، وأورد النقاش بين الصوفية حوله كما ذكرنا سابقًا.

أما ابن باكويه، فقدم رواية صحيحة عن حياة الحلاج بناءً على حسن سيرته؛ فرواية ابنه حمد تخلو من الخوارق والمعجزات، وإذا كانت تلك القصص الخارقة -التي تبرز في كتب التراجم المتأخرة- فإن الولد من أكثر الناس حرصًا لاحتفاظ بذكريات الكرامات لأبيه، وتؤكد الرواية التي استعدنا إليها من إيراد ما قاله إمامان مُفتِّشان: الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” وأبو سعد السمعاني في “الأنساب”. وبمجرد تجاوزنا المترجمين الأوائل، يظهر اهتمام بالجانب الأصولي والديني لقصة حلاج.

ويبين من خلال كلامه نفسه: أورد ابن الساعي (ت 674هـ) في كتابه “أخبار الحلاج” نقلاً عن تلميذ الحلاج أحمد بن فاتك الصوفي بأنه كان يقول: “من اعتقد أن الجانب الإلهي يمكن أن يتزاوج مع البشرية أو البشرية مع الإلهية فقد كفر”، وأضاف:
“أنا سِرُّ الحق! الحق لست أنا، ** بل الحق فابتعدوا عني
وفي جلسة محاكمته: “بشري حرام، ودمي مقدَّس، وغير مسموح لكم بالتنبؤ عني، واعتقادي الإسلامي، ومذهبي في السنة، فتقوا الله في دمي”!!

ومن خلال كلام الذين عرفوه شخصياً، فقد نقل إبراهيم الحلواني في “أخبار الحلاج” قوله: “لقد خدمت الحلاج لمدة عشر سنوات، وكنت من أيام أقرب له. وصادفت أني سمعت الناس يتهمونه، فقمت بتجربة: قلت له يومًا يا شيخ، أود أن أعرف شيئًا عن معتقدات الجانب الداخلي! فقال…: يا ابني! سأذكر لك شيئًا من طيبة مفهومي للتعاليم الدينية: لا أصدق دماغي”.أحد المعلمين على جملة، فقط استوعبت أصعب وأقوى مما هو عليه، وأنا حاليًا على ذلك”. وجدنا أن الإمام أبو القاسم القشيري، من علماء المذاهب المختلفة، نقل في كتابه ‘القشيرية‘ مقطعًا طويلًا من كلام الحلاج في توحيد الله.

وبعد وفاة الحلاج بعد قرن ونصف، وجدنا علماء كبار يدافعون عنه حتى من داخل المذهب الحنبلي؛ مثل الإمام ابن عقيل الحنبلي الذي “كتب جزءًا في مدح الحلاج وفسَّر أقواله وأشعاره واعتذر له” حسبما قال سبط ابن الجوزي في كتاب ‘مرآة الزمان‘. حتى اعترف ابن عقيل بتأييده للحلاج واحتجاجه عندما “استتابته” السلطة العباسية بضغط من زملاءه في المذهب الحنبلي.

ففي وثيقة الاستتابة التي سجلها ابن الجوزي في ‘المنتظم‘ على لسان ابن عقيل، قال الأخير: “كنت أعتقد في الحلاج أنه من أهل الزهد والدين والكرامات، وأنصرت ذلك في جزء من أعمالي، وأنا تائب إلى الله وأدركت أنه قُتِل بسبب اتفاق الفقهاء على خطئه”. ورغم أنه لم يصدر حكمًا بالزندقة أو الكفر على الحلاج، إلا أنه وصفه بأنه “أخطأ”.

وأيضًا تقدم الإمام ابن تيمية -في كتابه ‘الاستقامة‘- بإدانته للحلاج واصفًا إياه بالزنديق، مؤكدًا أن لا أحد من علماء التصوف يبرر كلام الحلاج، واتفقت الأمة على أنه إما مخطئ، وإما عاص، وإما فاسق، وإما كافر. وعلى الرغم من هذا، إلا أنه كان يشك في صحة بعض ما نُسب إلى الحلاج من “الشطح والطموحات”.

تبعًا لذلك، يبدي ابن تيمية شكوكه وينتقل إلى إظهار التعاطف مع من دافعوا عن الحلاج، ويقول: “أحسن ما قيل: إنه كان رجلا صالحًا في سُلوكه، لكنه تأثّر بالوجد والحال حتى ارتكب أخطاء في الكلام. من يُخطيء في حديثه ويسقط على أرضية الظن، يُعتبر شهيدًا، والمقاتل ضده يُعتبر مجاهدًا في سبيل الله”.

ميدان - القرامطة

أسباب الاضطراب
إذا كنت، أيها القارئ، تتساءل عن أسباب تشويش حالة الرجل وكيف أصبحت كما ذكرت؛ فأقول لك إن سبب ذلك يعود إلى تعقيد حياة الحلاج بجوانب متنوعة: دينية وصوفية، وإذا فهمت حقيقة هذه التعقيدات فأنت على دراية بأن معظم ما يروى عن الحلاج ويستفسر عنه خارج عن هاتين الناحيتين.

فالتعقيد الأول يعود إلى تن belonging-to-avant-gardeُ الحلاج كان على ارتباط بهويات وتعابير لا يمكن التعبير عنها بشكل سليم للجمهور العام، حيث كانت تلك التجارب والمشاهدات التي يصفها أهل التصوف بـ”فناء الذات وظهور الحقيقة” تتعدى الوصف الكلامي، ولذلك قال ابن خلدون في ‘المقدمة‘ إن “التعبير عن تلك التجارب الصوفية صعب لانعدام تسمية واضحة لها”.

ومن الواضح أن هذه التجارب “المستعصية” تشكل تحديًا للتعبير الصحيح، حيث يصف شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الحالة بقوله: “يتعرض العارفون أحيانًا لحالات مثل الفناء والتجمع والاصطلام والسُكر نتيجة لقوة تأثير التصوف، وقد يصاب بالإرباك والضياع في الكلام بسبب تلك التأثيرات”.من جوانب تموجات الحياة التي تنطوي على الانشغال بالذات والآخرين”. ومن جانب آخر، قدّم أبو حامد الغزالي (ت 1111م/505هـ) اعتذاراً في بعض أسفاره كـ “سراج الأنوار” عند وصفه لحالة الفناء: “فإن السالك من أهل التصوف إذا عرف توقف الأشياء على الله عز وجل، وأدرك أن ليس هناك شيء متين بذاته سواه؛ قال: ليس في الرداء إلا الله، وأعلن: أنا هو الحق بمعنى الوحدانية”. بناءً على ذلك، فإن كلام الصوفيين حول تلك الأمور -باللغة السائدة- يشير إلى توجيه الاتهامات نحوهم من قِبل الجماهير.

وبالرغم من ذلك، قد لا يحتوي الكثيرون على استوعاب القول المنسوب للحلاج، مما يجعلهم ينشرون شائعات أكثر مما يعولون عليه؛ كما ورد سابقًا عن ابن تيمية الذي جاء في كتابه “التوحيد” بتأويل قول الحلاج على أنه تأكيد لعقيدة “التوحيد والاندماج”، علمًا بأن “إذا كان هذا القول صحيحًا” فيما يتعلق بالحلاج “فإن المعنى الصحيح هو نفي عقيدة التوحيد والاندماج التي انتهجتها جماعة من الصوفية وأسندت ذلك للحلاج؛ بمعنى أن هذا القول من الحلاج يعد ردًّا على أتباع التوحيد والاندماج، وهذا بالتأكيد مقبول”!!

أما الغموض الثاني، فيتعلق بالغموض الناتج عن طبيعة الحركات السرية السياسية؛ فنظن أن الحلاج كان مرتبطًا بما يمكن تسميته “جماعة الصوفية الناشطة سياسيًا”، التي كانت تهدف إلى إزاحة حكم بني العباس واستبداله بسلطنة أهل البيت، وفيما بعد بدأ يطالب بالسلطة لنفسه. وتتطلب العمليات السرية وجود بعض الغموض في التحركات والمراسلات والرموز التي لا يمكن فهمها إلا لأتباع مشاريعهم.

صور من التاريخ الإسلامي - مقتل الحلاج

حملة تشويه
قمنا بمتابعة القصص التي تفتح على الحلاج وتستهزئ به، ووجدنا أن معظم هذه الروايات تدير حول خصومه. كثرة أعدائه كانت كبيرة؛ فمنهم من كان يشغل منصبًا في الحكومة التي عارضها الحلاج فيعتمدون في أحاديثهم عنه على فلسفة “الحملات التشويهية”. ومن هؤلاء أبو القاسم التَّنُوخي (ت 953م/342هـ) والصُّولي (ت 946م/335هـ) وعمرو بن عثمان المكي؛ وكان هذا الأخير قاضيًا في جدة، ثم انتقل ليصبح موظفًا في الدولة بعدما كان رأسًا للحلاج، وكان يرسل رسائل إلى المدن بتنديد الحلاج.

ولا يجب أن ننسى دائمًا الغريزة الحسد بين العلماء والمشايخ، ونتذكر القاعدة الذهبية التي بينها إمام الدعاة ابن الجوزي قائلًا في كتاب “صيد الخواطر”: “عندما يرى شخصًا يعتبره نظيرًا له -وقد تقدم عليه- فينبغي عليه أن يأخذ منه الشيء، وربما يغار؛ إذ الإخوة يوسف من هذا النسل”!!

الجنيد -من جهتنا- يُعتبر على رأس هرم النظام الصوفي السياسي، وكان الحلاج من أتباع هذا النظام في البداية؛ إذ كان يتلقى التوجيهات من الجنيد في تنظيم شؤونه. يخبرنا حمد بن الحلاج عن قوله عنه في رواية ابن باكويه: “ثم خاصم والدي الجنيد بن محمد، وطرح أمامه ما يمكن أن يُعكر صفو حياته بسبب الخلاف الذي نشب بين أبي يعقوب [النَّهْرَجُورِي] وعمرو [المكي]، فأمره بالصمت والتأني؛ وقد التزم الحلاج بذلك تماشيا مع توجيهات شيخه.

ثم بعد عودة الحلاج من مكة، انتعشت جماهيره وتضاعف نفوذه، وعلى ما يبدو كان يمتلك جرأة وإصرارًا أكبر من أسلوب الجنيد الميّز بالتكتم والتحلل. فعندما رأى الجنيد التزايد في عدد أتباعه ونشوئه نحو قيادة المجتمع اتهمه بالتكبر والتظاهر، ففصل الحلاج ذاته. يقول ابن حمد: “وعاد إلى بغداد بمجموعة من الفقراء الصوفية، فاستشار الجنيد بن محمد ولم يستجب له، واتهمه بالادعاء في الأمر، فشعر بالوحدة وأخذ والدتي ورحل إلى تُسْتَر (= مدينة تقع الآن غربي إيران)”. وكانت في تلك المدينة توسعت قاعدته الجماهيرية.

%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae %d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a %d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b9%d8%b8 5 %d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab %d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d9%8a%d8%b1%d8%a9

نشاطيةالسَّياسة
كانت لدى الصوفية – أثناء النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- توجه عَلَويٌ بارز، ويرجع ذلك إلى سببين؛ أولًا: روايتهم العلمية -أو الطريقية- التي كانوا يعتمدون عليها في توجههم نحو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الذي يزعمون بأن جنيد اتباعه قد أخذ الطريقة من أبي الحسن السري السقطي ومن ثم الى الأجيال التالية.

وثانيًا: أن مَعظم هذه الجماعة من الصوفية كانوا من أجلاء خراسان، وهم –كما هو معلوم- النواة الصلبة التي شجعت على دعوة لآل البيت ونشأت معهم الدولة العباسية. وكان الحلاج من أعضاء هذا التيار السياسي، إلا أنه شاهد لذاته الشهرة والاعتراف فتجاوز التراتبية الحركية، وهو ما أزعج شيخه الجنيد بسبب الخلاف الذي نشب بينهما بعد عودته من مكة التي دخلها ومعه “أربعمئة رجل” من أتباعه، وفقًا لما ورد في سجلات الذهبي.

كان الجنيد يمارس السياسة بمقاطعة المسؤولين في الحكومة العباسية، وهو ما تعرض له مع عمرو بن عثمان المكي بعد تعيينه قاضيًا في جدة، فانقلب الجنيد عليه كما يذكر الذهبي في ‘السِّيَر’. وليس من وسع قولنا تصور الحركية السياسية للحلاج من تصوراتنا الشخصية، بل هو شهرة عنه لدى العلماء القدامى، وقد ألمح إليه بعض الرواة مثل الحلاج، “شيخ الصوفية” إبراهيم بن شيبان والنديم أو ابن النديم مؤلف كتاب ‘الفِهْرِسْتْ‘، وإمام الحرمين الجويني.

ذكر إمام الحرمين – وفق ابن الجوزي في ‘صيد الخاطر‘ ونقلا عن ابن خلكان- أن “الحلاج والجنابي القرمطي وابن المقنع تحالفوا لزعزعة الدولة، وتحطيم المملكة، وجذب القلوب. وكان الحلاج كان يزعم إسلام عاتبي الخلفاء، وعقائد الصوفية للجماهير… وكان شجاعًا يتحدي الحكام، مارسًا أفظع الجرائم ويطمح لإطاحة الحكام”. وأضاف النديم أن الحلاج “في بدايته كان يدعو إلى رضا آل محمد وقد اعتُقل وجُلِد بالسوط”. وقال إبراهيم بن شيبان كما في ‘أخبار الحلاج‘ لابن الساعي: “لا تستمعوا للدعوى! وانظروا إلى نتائجها على الحلاج”!

كان لدى الخلية الثورية – التي رفضها أتباع الجنيد وابتعد عنها الشبلي الذي كان يقول: “كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا إلا أنه أفصح برأيه”- قادة مثل الحلاج ونائبه أبو العباس بن عطاء الذي كان مؤَيّدًا له حتى استشهد بسببها.

إضافة إلى أبو القاسم النصراباذي الذي كان له دور ثوري ومقاوم ضد الدولة العباسية، حيث يقول السلمي في ‘طبقات الصوفية‘: “مع كثرة استضعافه؛ لقد جُلِد واهان وسُجن مرارًا!”. وكان من ضمن هذه الخلية أيضًا محمد بن خفيف الذي كان من أفراد النبلاء كما يقول الذهبي، حيث زاره الحلاج مرة في السجن وأوصاه “بحفظ تلك الرسائل السرية”؛ أي المراسلات السرية التي كانت تتبادل بينهما.

ونجح الحلاج في توسيع نطاق تأثيره في الدائرة القريبة من رأس السلطة، حيث جذب بعض كبار موظفي بلاط الخليفة العباسي المقتدر بالله، حتى اكتشف وزيره حامد بن العباس الخراساني “أنه ضج به من خدم ومرافق وأتباع المستقدر، وكذلك خدم نصر الحاجب وحمد بن محمد الكاتب”؛ وفقًا لما جاء في روايات ابن الجوزي والذهبي.%d8%b5%d9%88%d8%b1 %d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae %d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a %d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab %d8%a5%d8%b3%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%a7%d8%aa %d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%af 9تجوال بالأقطار
بدأ الحلاج بالتجوال في البلدان واجتمع بالمتبعين لنداءه الخاص، وكانت تركيز حركته أكثر في بلاد خراسان ومناطق أبعد من النهر دون أن يهتم بأرض العرب، وهذا يتوافق مع الانحياز الذي أشرنا إليه من جانب الفارس إلى دعم آل البيت حتى صاروا هم المحرك لها. كما كان يعبر البحرين في طريقه إلى مكة لتنسيق خطواته مع الزمرة، ويدعم ذلك حينما ألقت السلطات القبض على الحلاج في عام 301هـ/914م بتهمة “هذا داع من دعاة الزمرة فاعرفوه!” كما يروي سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان’.

نؤكد هنا وجود تنسيق بين الحركات السرية الصوفية العلوية؛ فقد بدأت زمرة الزمرة كحركة صوفية وفقا للمؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) – في كتابه ‘الكامل’ – حيث يشير: “في هذا العام (= 278هـ/892م) تحرك قوم من الكوفة يعرفون بالزمرة، وكان بدايتهم – كما ورد – أن رجلاً منهم… [كان] يظهر التقشف والزهد…، وأقام على ذلك فترة… حتى انتشر ذلك [عنه] بينهم، ثم نبأهم بأنه كان يدعو إلى إمام من آل بيت النبي، وظل على ذلك حتى انضم إليه العديد”.

ويتضح لنا بذلك أن رحلات الحلاج إلى مكة ومروره بالبحرين – التي كانت تحت سيطرة الزمرة حينها – تشير إلى التعاون السياسي الذي حدث بين الطرفين، وربما مع حركة الفاطميين في العصر الإسلامي من خلال تواصلها المعروف آنذاك مع الزمرة على الرغم من انفصال التنظيمين. نؤكد هنا أن التنسيق بين هذه الحركات السياسية لا يعني بالضرورة توافق فكري بينها، بل يكفي وحدة الهدف السياسي.

كان الحلاج – خلال رحلاته الشاملة – يتغيّر “في إسم نشاطي” كما تناوله الخطيب البغدادي – في ‘تاريخ بغداد’ – بسرد عن حمد بن الحلاج: “وكان عمرو بن عثمان [المكي] ينشر الأفكار في قضيته إلى خوزستان ويحاور فيها بالعظائم حتى غضب ورمى ثياب الصوفية، وارتدى قميصاً وبدأ في ملازمة أصحاب الدنيا، ثم غطى واختفى عنا لمدة خمس سنوات، سافر إلى خراسان والمناطق البعيدة، ودخل سجستان وكرمان، ثم عاد إلى فارس؛ فبدأ في التحدث مع الناس واستقبال الحشود [للمناصحة] ودعوتهم إلى الله، وعرف بفارس بإسم أبو عبد الله الزاهد، وكتب لهم كتبا”.

ويضيف البغدادي أنه “عند عودته [إلى العراق] كانوا يرسلون إليه من الهند بـ ‘المُزدهر’، ومن دول ماسين (وقد تكون: الصين) وتركستان بـ ‘المُعطِّر’، ومن خراسان بـ ‘المفصّل’، ومن فارس بـ ‘أبو عبد الله الزاهد’، ومن خوزستان بـ ‘الشيخ حلّاج الكشافات’ (أي كاشفها)، وكان هناك في بغداد أناس يشيرّون إليه بـ ‘المهجور’ (المفقود للوعي بسبب الجذب الصوفي)، وفي البصرة أناس يسمونه ‘المعالج'”.

ويزودنا الخطيب أيضا بأن الحلاج كان دائماً يتبدل ملابسه بحسب طبيعة سكان البلاد: “وكان في بعض الأوقات يرتدي المسوح، وفي بعض الأوقات يمشي بخرقتين ملونتين، وينسج في بعض الأوقات العمامة والدرعة، ويمشي في الثوب أيضاً بمظهر الزي العسكري”. أما الذهبي فيسجل – في كتابه ‘العِبر’ – تغيير خطابه على حسب عادات سكّان كل بلد “فإذا عرف أن أهل بلد يرون التزهد أصبح تزهدياً، أو يرون التشيع أصبح تشيعياً”.

هذه النصوص تظهر نشاط الحلاج في جمع وتحريض الأتباع ضد دولة الخلافة العباسية، واختلاف زيه وألقابه وتنوع خطابه يوضح شمول حركته للأبعاد العسكرية والمدنية وجميع شرائح المجتمع، وربما تحليل قول ابنه حمد فيما قاله لنفسه عند قتله:
أسَخَطَتني مَطامعي في إسرافي * لو تجاوزتُ حدود الشّهوة لكُنت حُُرًّا!!

صور من التاريخ الإسلامي - مقتل الحلاج

تبادل مشفّر
هنا وصلنا إلى موضوع تعقيد يثير الالتباس والفهم الخاطئ حول أبي منصور الحلاج وقد أدى إلى تسميته بالإلحاد والزندقة والتحول، وهو – في رأينا – بعيد كل البعد عن ذلك. تحدث سبط ابن الجوزي – في ‘مرآة الزمان’ – عن “أوراق وجدت في بيت الحلاج تحمل رموزًا”، كما كان له لغة خاصة “مشفرة”في تبادل رسائله مع أتباعه، وحِمْل هذه اللغة على سَطحِها يؤدي إلى سوء فهم وخلط كبيرين.

وتعطينا النصوص التي تلمَح إلى هذا المعنى، مثل ما ذَكَر القاضي أبو علي التنوخي (ت 384هـ/995م) في ‘نشوار المحاضرة’، حيث يقول: “وجدت في الكتُب المتوفرة (= رسائل للحلاج) مفاجآت من خطاباته [إلى] أتباعه البارعين في الطُرُقات، وتوجيههم بما يدعون الناس إليه، وما يُأمَرُون به من نقلهم من حالة إلى أخرى ومنزلة إلى منزلة حتى يصلوا إلى الهدف الأقصى، وأن يتحدثوا مع كل فئة بحسب عقولهم وفهومهم، وعلى حسب استجابتهم وانفهادهم، وردود أفعال لفئة كتبوها بكلمات رمزية لا يفهمها إلا من كتبها وإلى من كُتبت إليه…، وفي بعضها صورة فيها اسم الله تعالى مكتوب على تأطير، وبداخل ذلك التأطير مكتوب: ‘علي عليه السلام’؛ كتابة لا تحتاج إلى تفسير إلا لمن تأملها”.

ويروي ابن كثير -في ‘البداية والنهاية’- عن السلمي بسنده عن شيخ الصوفية أبي بكر ابن مِمْشاذ الدِّينَوَري الزاهد (ت 350هـ/962م) قائلاً: “حضر عِندنا في الدِّينَوَر رجل ومعه مِخْلاة (= وعاء)، فلم يَتركها بالليل ولا بالنهار (يبدو أنه أحد أتباع الحلاج يُحمِل مراسلات سرية)، فتفتيشوا المخلاة وجدوا فيها كتابًا (= رسالة) بعنوان: ‘من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان’، فأُرْسِلَ بها إلى بغداد، فسُئلَ الحلاج عن ذلك فاعترف أنه كتبها، فقالوا له كنت تُدَّعي النبوة فصرت تُدَّعي الألوهية والربوبية! فقال: لا، ولكن هذا يُعتبر بمثابة إجمال لديننا، أي الكاتب إلا الله، وأنا واليد آلة”! فذهب بهم جدلا إلى المناظرة الكلامية، وحمِّل المعنى على عقيدة الجبرية من أن الفاعل هو الله.

عند استعمال هذه الألفاظ الشريفة من أسماء الله الحُسنى في سياق سياسي، اكتشفنا قاموسًا لـ”فتح” رموز الرسائل السرية في قصة محمد بن علي الشَّلْمَغاني (ت 323هـ/936م) المعروف بـ’ابن أبي العَزَاقِر’، وهو واحد من الشيعة الثوريين الذين خرجوا بعد مقتل الحلاج على دولة بني العباس. ويُرسم لنا ابن الأثير بعضًا من مصطلحاتهم “العقدية” الظاهرة و”الحركية” الكامنة، بناءً على ما عُثِرَ عليه من خطاباتهم؛ مما قد يُفيدنا في فهم بعض رسائل الحلاج وتفهُم شِعرَه.

يُقول ابن الأثير إن أحد عُقَائدهم تكونت على “أن الله خلق الأضداد لِتَدُلّ على المُضْدُود (= التعبير عن اللفظ وإرادة ضده)… وأن الله اسم لمعنى، وأن من احتاج الناس إليه فهو إله (= تحويل لفظ ‘الإله’ من مُصطلح كلامي/عقدي إلى لفظ رمزي/تنظيمي)، ولهذا المعنى يَتطلُب كل شخص أن يُسَمَّى إلهًا؛ وأن كلَّ فرد من أنصاره يقول: إنه رب لمن هو.. خَلاف درجته (= تشفير في الخطابات السرية الداخلية بين أفراد التنظيم)، وأن الرجل منهم يقول: أنا ربّ لفلان وفلان ربُّ ربِّي، حتى ينتهي الأمر إلى ابن أبي العَزَاقِر (= الشَلْمَغاني رئيس التنظيم) فيقول أنا رب الأرباب”!!

ويَظهر لنا أن ابن الأثير قد فُهِمَ سطحيًا هذا النص الذي يتحدث عن بعض رموزهم؛ فمن واضح أن إشارة النص -باختلاف أصحابه وهم حركة مُعرضة سياسية سرية يلاحقها النظام- تُشير إلى لغة عملية في التبادل البريدي، وهي لا تُظهر عقيدة وديناً. وحين يُدرَكنا هذا التشفير في فهم مراسلات الحلاج، ندرك قدرتها على تفسير ما استحدث من مراسلاته والدلالات المُشتَقة التي يراها القارئ في “شَطة”، ونَفهم في ذلك الوقت أنها ليست نصوصًا عقائدية بل تُمليَات لفظية ألّفها ظِروف أمنية ضاغطة.

وقد كان الحلاج يعلم بخطورة هذه اللغة السرية واحتمالية تشويشها على الجماهير، لذا حذر مَن نظر في بعضها من حوله؛ ففي ‘أخبار الحلاج’ لابن زنجي، يذكر أن علي بن مردويه قال له شيخه الحلاج: “اقتنص من كلامي ما أدركت علمك، وما تذهب عنه علمك فاضربني في وجهي ولا تتعقبه لئلا تضل عن الطريق”. وكان يعتذر للمشايخ الذين يتعاملون معه بالمفهوم الحرفي لمراسلاته السرية، ولم يكن يُكابر في الدفاع عنه أمامهم: “وقال للمشايخ: تريدون مناظرتي؟ أنا على يقين بأنكم على الحق وأنا على الباطل“!!

%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae %d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d9%84%d8%a7%d9%85%d9%8a4 %d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%ab %d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%b2%d9%8a%d8%b1%d8%a9 copyنهاية الطريق
يَتضح أن الحلاج، بَعد رجوعه من رحلة الحج الثالثة في حوالي 290هــ/904م، نقل مشروعه إلى مواجهة السُلطة العباسية، استفادًا من الأوضاع العامة التي كانت تعصف بالدولة العباسية على مدى تضاريسها الجغرافية. فقد كانت هذه الدولة تواجه ثورة القرامطة في شرق الجزيرة العربية منذ عام 278هـ/892م، وانتشار قوي ونمو لحركة الفاطميين

في الغرب الإسلامي منذ نحو 280هـ/894م، ولكن عندما أعلن التصدي للحكم، تخلى عنه بعض مشايخ الصوفية مثل أبو بكر الشبلي وأبو محمد الجريري الصوفي (المتوفيان حوالي 311هـ/924م)، وكان كلاهما من أبرز أصحاب الجنيد.
ثم بدأ في مواجهة حملة التشويه التي شنها عليه منافسه ابن داود الظاهري، واستمرت حتى وفاته في عام 297هـ/902م، وفي سياق مختلف ذكر الخطيب البغدادي في حديث لحمد بن الحلاج أن والده “ذهب في رحلة حج ثلاث مرات وعاش لمدة سنتين ثم عاد وقام بتغيير حياته، واشترى عقارًا في بغداد وبنى منزلا، ودعا الناس إلى فكرة لم أتفق عليها إلى حد ما، حتى تم استنكاره من قبل محمد بن داود وجماعة من أهل العلم واتهموه بالسوء” أمام الحكم.
عند تولي حامد بن العباس وزارة الحكم في عام 306هـ/919م، قرر القضاء على خطر الحلاج، وبدأ بمطاردة أتباعه وتفتيش منازلهم واستعراض مراسلاتهم، وكان يأمر العلماء بقراءتها لاستخلاص أي شيء يدين الحلاج. وتوصلوا إلى قرار بناء على رسالة من الحلاج تحتوي على فكرة أنه يمكن للإنسان الذي لا يستطيع القيام بركن الحج أن يكرم ثلاثين يتيما تعتبر له كأنه قام بركن الحج، لكن عندما سمع القاضي هذا الامر، انتقل إلى الحلاج وقال له: “من أين أتيت بهذا؟”، فأجاب الحلاج: “من كتاب الحسن البصري ‘الإخلاص‘”، فرد القاضي: “أنت تكذب يا مثير للاضطراب”!!
وفتح هذا الأمر بابًا للوزير للتخلص من الحلاج قانونيًا! فأمر القاضي بكتابة القرار! أي تحويله إلى قرار رسمي، لكن القاضي كان يتردد لعدم وجود أساس قانوني لإعدامه، ولكن الوزير كان لا يفوت هذه الفرصة، على الرغم من أن الحلاج كان يذكرهم بأنه مؤمن ولا يجب أن يحاكموه بدون حق! ومع ذلك، ظل الوزير يضغط على القاضي حتى استخرج منه قرارًا قانونيًا بناء على كلامه!
ذهب الوزير للخليفة ليبشره بهذا الإنجاز، لكن لم يأت جواب الخليفة في الوقت المناسب، فأرسل له رسالة أخرى تحتوي على شكوى من أن ما حدث في جلسة المحكمة “انتشر وانتشرت الشائعات، وإذا لم يتم إعدام الحلاج فإن الناس سينخدعون ولن يصدقوا أي شيء آخر”، وفقا للخطيب البغدادي. وكان ذلك كافيًا لتشجيع الخليفة على الموافقة على الحكم.
وكانت جزءًا من التدبير السياسي أن يكون الإعدام بصيغة غير تقليدية تحمل رسالة إرهاب تردع أي شخص غير الحلاج عن اتباع طريقته. وأمر الخليفة بجلد الحلاج “ألف جلدة، وإذا نجا فسيتم قطع رأسه”، بحسب الذهبي. وأحضر الحلاج تحت حراسة مشددة من قوات الشرطة التي خافت أن تتدخل الجماهير، وقد شُق الحلاج بجلد الألف جلدة دون أن يصدر منه أي صوت، بل كان يكرر “أحد أحد”، ولما شاهدوا ذلك، أمروا بقطع أطرافه، ثم تم حرق جثته ورمي رماده في نهر دجلة، وعُرض رأسه لمدة يومين في بغداد.. ثم نُقل إلى خراسان”!!
تمت إعدام الحلاج – بتاريخ 309هـ/921م- بنفس الطريقة التي اعدم بها زعماء الزنج ورئيسهم علي بن محمد البصري في عام 270هـ/884م، ويقول كتب التاريخ إن الحلاج تم صلبه ثلاث مرات: مرتان عند القبض عليه في عام 301هـ/914م، حيث نُقل معروفًا على جمل إلى بغداد، وحُبس في قصر السلطان، وتم صلبه مرتين –وهو على قيد الحياة- في أحياء بغداد الشرقية والغربية للترويع، لكنه لم يُقتل؛ والمرة الثالثة كانت عندما تم إعدامه وصُلبه لمدة يومين.
وبهذا انتهت مغامراته السياسية ومحاولاته لتغيير نظام الحكم لإقامة دولة تبني تجربة الصوفية؛ لكن هذه التطلعات أدت به إلى ما وصفه بنفسه في قصيدته حسب ما ذكره السمعاني في كتاب ‘الأنساب‘، إذ قال “لما أخرج ليُقْتَل أنشد:
طلبتُ المُسْتَـقَــرَّ بكل أرض * فلم أرَ لي بأرض مستقَرًّا
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني * ولو أني قَنِعْتُ لكنتُ حُرًّا
ووفقا لابن كثير في ‘البداية والنهاية‘؛ قد وقف عليه صديقه الشبلي الصوفي في آخر ساعاته ليبين له خطأ الطريق الذي سلكه، فقال “وقد رأى الحلاج مصلوبًا: ألمْ أنْهَكَ عن العالَمين”؟!!
المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.