قطاع غزة ليس مشابهًا!
أعتقد أن الأحداث في قطاع غزة اليوم تحتاج إلى لغة خالية من العلم البشري التي تكون مناسبة لمشاهد ليس لها مثيل، فكيف يمكن للكلمات أن تصف صبيا يتم إنقاذه من تحت الأنقاض ومعه حقيبته المدرسية على ظهره، يسأله المنقذ: “لماذا تحمل حقيبتك المدرسية يا ولدي؟” ليرد ببراءة “يا سيدي أحمل في داخلها أشلاء أخي الصغير”، فبأي كتاب تدون قصتك يا طفل؟ وما هو نوعك من الأطفال؟ أخبرني
أرجوك، بالله!
لـغـزة تمتلك لـسـانًا خـاصًا، ربما هذا اللـسـان الذي يحتاج إلي تعلمه كي أكتب هـذا المقال، ولـكـن كيف؟ لـغـتهم لا تعبّـر بالكلمات، فأي كلمة تـشـيـر بمشهد أب يصلّي علـى أفراده الأمـوات وأي كلمة تصف خوف طفل يسـأل هـل سأعيش وأنـا مغطى بدمائي؟
وكيف ننقل لأحفـادنا حكاية الطفل الذي يعلم أخاه الصغير الشهادتين بـكـل شجـاعة، ويثـبـت فيها حدوتة لا يستطيعون تجاوزها، الصغير يهمس بأذن أخيه قائلاً: “رفع صوتك، فلسني أسمعك”، فهل يحتاج الطفل لتلقين الشهادة، يا ابني؟ بأي كلمات نعب رواية حكاية منال السويركي التي انتظرت 15 عامًا لترزق بـتـوائمها الأربعة ثم دُفنت معهم تحت أنقاض مـنزلها وهم في عمر الزهور، ولكنّ في غزة تكون الرواية مُختلِـفـة والصُـورة تخـفـي في طياتها آفاقاً لا تُحصى.
الحياة والموت في غـزـة تمتلك كلماتُ تُـحمـل معـاني مُـختلفـة لم نفهمها نحن الذين نعيش في راحـة الحياة، فـلـغـــزة تمتلك لغتها الخاصة، ربمـا هذـه اللغة التي أحتاج أن أتعلمها لكتابة هذا المقال، ولكــن كيـف؟ فلغتهم لا تُكتَب بالكلمات، أي كلمات تُـشـخـص مشهد أب يـُصـلّي على أفراده الممزقين وأي كلمات تُصف خوف الطفل الذي يسـأل هل سأبقى على قيد الحياة وهو مغسول بدمائه، وآخرون مدفونون تحت أنقاض منزلها دون أدنى اكتراث لنـفسـها يسألون عن شقيقاتهم.
في غـزة، رائحـة الـخـبـز تأخذ طابعًا مُختلفًا، لكن ليس مثل رائحة خبز الأم. الخبز في غزة ممزوج بالدم، بعد مـعـركة شـرسة شهدت سقوط الشهداء فيها، نجح نوح الشغنوبي، الفلسطيني الذي يعمل في الدفاع المدني شمال القطاع، في الحصول على كيس طحين يزن 25 كيلو، بالنسبة لنوح، لا توجد كلمات تكفي لوصف سعادته، فأخيرًا سيأكل من الخبـز الأبيض الذي لم يذق طعمه منذ 7 أشهر. عجيبة هذه الحياة، يبحث نوح عن رغيف من الخبز الأبيض، ونحن نتخلص من جرامات من حياتنا المُرهقة لنبدو أكثر نشاطًا وجمالاً.
أي نوع مـن الإنسـان أنتُم يا أهل غزة وأي نوع مــن الإنسان نـحـن نحن؟ ساعدونا لكي نتـعلم مـن مـن سـلكوا طـريق الصبر والثبات، عــلمونا كيــف نكون بشـرًا مثلـًا لكم؟ نمضي مرور الكرام على مفترق الموت مـن دون خوف، وننظر إليه بابتسامة، ولسان حالهم يقول “لا تقلق، سأعود إليكم قريبًا”، فالدور الآن على الآباء والإخوة والأمهات والأخوات والأحياء مـنا والأموات الأحياء، لكن سأعود لكم بسرعة لأترككم تنتظرون طويلاً. الطريق إلى الجنة مكتظٌ فوق غزة، حيث قوافل الشهداء كثيرة، ممن فقدناهم وممن ننتظرهم ولم يبدلوا تبديلاً.
ما إن نفتنكم يا أهل فلسطين، إنما تظلون تسجلون تاريخكم بأسلوبكم الخاص، فتأنوا قليلًا حتى لا تسع سجلات التاريخ لأقوالكم
اليوم، تعيش غزة الصغيرة المنكوبة في طوفان، تحاول العالم أجمع أن يتجمع على شواطئها وفي سمائها ليجد غزة تتحدث لهم قائلة: “هل تظنون أنني نسيت؟ هل تظنون أنني انبشت؟ عذراً رابين، لم يبتلع البحر غزة كما أتمنيت، بل غزة هي التي ابتلعتكم، قوموا من قبوركم وانظروا كيف جرف الطوفان وأغرق محتليكم وأسر جنودكم.
قوم يا شارون، فانسحبتم منها في عام 2005 فعاد احتلالكم في عام 2023، وعقارب الساعة تزداد سرعة في اقترابنا من منتصف عام 2024 دون أدنى بصيص أمل لإنهاء نزيف غزة عاجلاً. الأطفال نموا يا أيها الحمقى وتطورت ثوراتهم معهم، لماذا لم تتعلموا عن غزة؟ هل سمعتم عن ثيوبالد ملك نافارا الصليبي الذي هزمته غزة في عام 1239؟ وعن التتار وانكسار نابليون أمام جدران عكا.
بدا لنا أن فلسطين بأسرها تملك لغة خاصة بها، كيف يمكن فهم هروب أربعة أسرى من أقسى سجون الاحتلال عبر نفق وكأنك تشاهد فيلم “The Great Escape”، أو العجائب التي شاهدناها في مخيم جنين اليوم، أو ما فعله الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 2021 في معركة سيف القدس.
إنما تظلون تسجلون تاريخكم بأسلوبكم الخاص، فتأنوا قليلاً حتى لا تسع سجلات التاريخ لأقوالكم. نعم، إنها غزة وجنين وأم الفحم ونابلس واللد، إنها فلسطين بكل لغات الكون، فسلاماً عليكم يا فلسطين، وسيعلم الذين ظلموا أن القدر لا يتسامح مع الظلم.