الحضارة المفقودة.. هل حقا صممت الأهرامات والمعابد القديمة بتقنيات متطورة؟
“قال بعض مشاهير الفلسفة، بعد مراجعتهم للهرمات: «كل بناء يخاف من فناء، إلا هذا المبنى، إنني أخشى على الزمان منه»”
شهاب الدين النوري {660-733هـ} – “نهاية الأرب في فنون الأدب”.
قبل ثلاثة آلاف وخمسمئة سنة، ظهر مُهندس مصري يعرف أعماله اليوم، تُدعى “سننموت”. قدم “سننموت” أعماله أيضًا في عصر الملكة “حتشبسوت”، أحد ملوك الأسرة الفرعونية الثامنة عشرة (نحو 1479-1458 قبل الميلاد)، وقام ببناء معبدها الشهير في
اكتشف أيضًا
قائمة من 4 عناصر
رحلة فخمة بالدم والذهب والفودكا.. تعرف على فاغنر في أفريقيا بدعم من الروسي “دميتري سيتي”
أبعاد
المسيرات الإيرانية ..سلاح الضرورة الذي أثبت فعاليته
ناريندرا مودي.. الشخص الغاضب من التاريخ والجغرافيا
النهاية للقائمة
هذه الديكورات تذكر بلحظة ظهور “سيبا إن ساح”، والتي تعني “نجم الملك أوزورس”، وإذا نظرت بعناية سترى في سقف المقبرة ثلاث نجوم كبيرة، نعرفها اليوم بأسماء نجوم حزام الجبار، وهي التي شكلت أساسًا لتصاميم لا نهاية لها تحاول حل لغز الحضارة المصرية، مثل نظرية ارتباط الأهرامات الشهيرة في الجيزة بهذه النجوم الثلاثة.
الحشيش وأنيس منصور ومواضيع أخرى
حل لغز الحضارة المصرية والقصص المتداولة حوله ليس فعلًا حديثًا، بل هو جزء من نقاش فكري معاصر يحاول تفسير التراث الحضاري لبعض الأمم والشعوب دون أسس علمية أو إطار منطقي، ويعود هذا التوجه إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما بدأت الشكوك في القيم والأيديولوجيات القائمة.
أيضًا توسّع عقول البشر مع نجاحهم في استكشاف الفضاء والوقوف على سطح القمر قبيل نهاية العقد. في ذلك الحين، انبعثت آمال كثيرين في مواجهة قريبة مع كائنات فضائية أكثر تطوّرًا.
إنجيل الستينيات: كتاب حقق نجاحاً ضخماً
وجد “إريك فون دانكن”، الروائي السويسري، نجاحًا هائلًا عند نشر كتابه “عربات الآلهة” بعنوان جانبي مثير “هل كان الخالق رائد فضاء؟” في عام 1968، حيث باع ما يقارب نصف مليار نسخة خلال عقد من الزمن. ويُقال إنه “الكتاب الذي غيّر فهم التاريخ”، حيث يوضح دانكن أن بعض الإنجازات الهندسية للبشر عبر التاريخ لم تكن ممكنة إلا بمساعدة كائنات فضائية. بعد ذلك، استمر الروائي في تفسير القصص الأسطورية والدينية بأنها تواصل مع كائنات فضائية، مثل الوحي والملائكة ورحلات الأنبياء مثل الإسراء والمعراج، حيث اقترنت دابة البراق بنقل النبي محمد ﷺ في سفينة فضائية متقدمة، وفقًا لافتراض دانكن.
انتشرت هذه التفسيرات الوهمية في محاولة لتقديم تفسير علمي لبعض المعتقدات الدينية. على سبيل المثال، يرى كل من “ديفيد أيك” و”زكريا سيتشين” – حيث يُعتبر الأول منتشر لنظرية “السحالي” والثاني مروّج لفكرة اصطدام كوكب بالأرض – أن الأنبياء أو الملائكة كانوا عبارة عن كائنات فضائية جاؤوا للأرض لتقديم تعاليم حضارتهم وتكنولوجيتهم الخاصة. وتنتشر هذه الافتراضات بشكل أساسي في الديانات الخيالية التي تحاول استخدام مصطلحات علمية لتفسير ما لا يمتّ لها صلة بالعلم.
وعلى الرغم من فشل اللقاء المتوقع مع الكائنات الفضائية المتطورة، تطورت أفكار الكائنات القديمة إلى ما يُعرف اليوم بالحضارة المفقودة. اعتُبر في السابق أن بناة المعالم القديمة هم من نزلوا من السماء، ولكن ذلك تغير ليصبح مرتبطًا بأجدادنا البشر الذين اختفوا في الغموض. يُزعم منتصرو هذه الفكرة أن الحضارة البشرية قبل أكثر من 10 آلاف عام كانت أكثر تقدمًا تكنولوجيًا وعلميًا من وقتنا الحالي، وأن حدث كارثي أدى إلى رجوعها. لكن هذه الافتراضات معقّدة وتحتاج لتحليل للوصول إلى نتيجة قريبة من الحقيقة المعروفة بعلم الآثار الخيالي.
علم الآثار الوهمي: نظريات لم تثبت
نحن الآن في أرض خاوية، حيث هبطت طائرات تحمل مؤنًا وطعامًا لجنود كانوا يشتبكون في أحد الصحاري. كانت هناك مجموعة من القبائل البدائية تراقب تلك الطائرات التي تهبط داخل قواعد عسكرية، وظنت أن الحمولات المُفرغة هي من هبطت من السماء وستُهدى لهم إذا قاموا بنفس الفعل. فقاموا بنسخ التجربة، فبدأوا ببناء طرقات تشبه مدارج الطائرات، وصنعوا نسخًا بدائية من الأعلام وأجهزة الاستقبال والهوائيات وبوابات المداخل والمخارج الخاصة بالمطارات، ثم جلسوا انتظاراً لوصول الطائرات المحمّلة بالخيرات، إلا أنها بالطبع لم تهبط.
هذه المثالية التي استخدمها الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل، ريتشارد فاينمان، ليفسر كيفية عمل علماء الحفريات الوهمية، حيث يقلدون الطريقة العلمية المظهرية بكتابةٍ وحديث واضحين، ويأتون بخطوات ترتبط بعضها ببعض وينظمون بياناتهم بشكل يشبه طريقة العلماء. ومع ذلك، يعبرون عن العلمية فقط في الشكل، حيث يُلاحظ التحقق من المحتوى اكتشاف العديد من التناقضات. إنهم يعتمدون على النقل المختار والأدلة التي تؤيد وجهات نظرهم دون تقديم الحجج المتضادة، ويكبرون شأن الغموض مع تجاهل وجهات نظر الخبراء في المجال، حيث يقفزون من المقدمات إلى النتائج دون أساس منطقي، كما أنهم يتجاهلون – فيبعض الظروف – مبادئ ما يتعلمونه اصطلاحًا.
على سبيل المثال، في كتابه “التكنولوجيا المفقودة في مصر القديمة”، ينقل الكاتب والمهندس البريطاني كريستوفر دان أنه عندما زار مصر في عام 1986 ورأى تماثيل المعابد، وبخاصة تمثال رمسيس الثاني، لاحظ دقة غير عادية في النحت، وتماثلا غير عادي يدل على أنه من غير الممكن أن تكون قد تمت بالأساليب التقليدية للنقش، ثم أعلن في مقابلة إعلامية في وقت لاحق أنه لم يستخدم أدوات متقدمة لقياس تلك الدقة الفائقة، بل اعتمد على بصره ويديه وكاميرا فوتوغرافية، مما يشير إلى العجلة في استنتاج النتائج.
على الجانب نفسه، استشهد كريستوفر ورفاقه أيضًا بوجود توابيت متجانسة الأبعاد في مقبرة الأبقار المقدسة في منطقة سقارة، تبدو وكأنها صُنعت في مصنع واحد بواسطة قياسات آلية استخدمت الليزر لنحتها، مما يشير إلى أنها لم تم نحتها بواسطة نحات، كما لاحظوا أنها كانت ضخمة وثقيلة بشكل يجعل من الصعب رفعها بواسطة الأدوات التقليدية.
الحقيقة العلمية هي أن الباحث أوغست ماريت عندما دخل إلى تلك المقبرة عام 1850 وجد آثار كرات خشبية على أرضية المقبرة مع شرائط مزدوجة وضعت عليها، مما يثبت أن القوائم تم تدحرجها عليها، ووجد أيضًا رافعتين خشبيتين أفقيتين، كل منهما يعمل بثمانية أقسام للرفع، وهذه الرافعات ساعدت في رفع التوابيت التي وضعت فيها الأبقار بواسطة حبال طويلة لوضعها في مكانها، ولقد علمنا للتو أن الحضارات القديمة من جميع أنحاء العالم تقريبًا كانت تمتلك القدرة على استخدام الرافعات.
بالطبع، زوايا وأسطح التوابيت لم تكن متجانسة بالدقة التي ادعى بها البعض، بل تم نحتها بدقة ودقة ممتازة ضمن نطاق البشر في ذلك الوقت. وحسب الأنثروبولوجي الروسي ألكسندر سوكولوف، فإن القياسات الدقيقة للزوايا والحواف كانت تظهر بعض التباينات، حيث تراوحت الزوايا الداخلية للتابوت بين 90.8 درجة و91.4 درجة، والخارجية بين 89.1 درجة و90.8 درجة، أما فيما يتعلق بالأسطح التي يفترض أن تكون ناعمة ومستوية، فوجد أن قياساتها تتراوح بين 180.4 درجة و180.6 درجة، اختلافات طفيفة ولكنها من الممكن أن تحدث بين إنسان وآخر، على عكس أولئك الذين يدّعون أن الاختلاف يصل إلى الصفر.
إذا كان كريستوفر ورفاقه يبحثون عن توازن خيالي في قياسات التوابيت، لإثبات نظرية أساس خاطئة، فإن هناك من بحث عن توازن آخر في السماء بين مواقع النجوم اللامعة، والأهرامات الثلاثة الكامنة في منطقة الجيزة بمصر.
أهرام في الأرض نجوم في السماء
نترك الأبقار المصرية المقدسة إلى أبرز نظريات العلوم الخيالية التي تفترض أن الأهرامات الثلاثة جنبًا إلى جنب مع نهر النيل يتوازى معها في السماء ثلاث نجوم ونهر كوني. النجوم الثلاثة تحت اسم حزام الجبَّار، بينما يعتبر النهر الكوني الموازي للنيل سحابة دخانية تمثل أطراف مجرة درب التبانة، الكون الهائل الذي نعيش فيه وتوجد به الأرض ونظامنا الشمسي. لذلك، ثلاثة أهرامات ونهر على الأرض، وثلاث نجوم ونهر سماوي، فما هي النتائج المترتبة عن ذلك؟
وصدق هذا الاكتشاف، الذي يعود لروبرت بوفال، المهندس والمؤلف والمتحدث البلجيكي، يفترض أن عمر الأهرامات ليس 4500 سنة كما كان يعتقد من قبل علماء الآثار، بل يزيد على 10 آلاف سنة، فأثناء تلك الفترة البعيدة، كانت النجوم الثلاثة المتجاورة في السماء تتماشى بدقة مع أماكن الأهرامات الثلاثة في منطقة الجيزة بمصر، ومع تقدم الزمن وعوامل فلكية، انكسر هذا التطابق بين أهرامات الأرض ونجوم السماء. وإذا كان عمر الحضارة الفرعونية المسجلة هو خمسة آلاف سنة، فقبل 10 آلاف سنة -عمر الأهرامات وفقًا لهذه النظرية- كانت هناك حضارة تفوق المصريين تمتلك أدوات رصد كونية متقدمة ومعرفة هندسية عالية، لتنفيذ هذا التوازن السماوي الأرضي المذهل الذي يخطف الأنظار.
أما الحقيقة المعروفة، فإنّ المصريينتم التعرف على هذه الثلاثة نجوم بالفعل، وكانت حاضرة في النصوص القديمة، وتم رسمها على جدران المعابد. تم أيضا نقش معالمها على الحيطان ووضوح فهها الدور الذي لعبته في حياة أولئك السكان -لتذكر بداية المقالة-، لكن لم يكن هناك من دليل مادي نقش يتحدث عن رأي المهندس بوفال في المطابقة بين الأهرامات على الأرض والنجوم في السماء، وليست هناك أية كتابات تشير إلى هذا التطابق، والذين قدره المصريون على أنها تمثل آلهتهم وأرواحهم بجسد سماوي، وأن النجوم الثلاثة التي قدرها المصريون تمثل معبودهم “الملك أوزوريس”.
هذا يعني أنه لا يوجد دليل واضح نفقد، يؤكد أن هناك علاقة مقصودة بين الأهرامات وحزام الجبار، ولا وجود لأي نصوص أو أفكار واضحة تدعم ما يقدمه من مزاعم حول هذه الحضارة الضائعة.
ورغم أنه يمكن أن يكون هناك بعض التطابقات المتصورة، فإنه من غير الممكن حدوث ذلك إلا بتغيير صورة واحدة لتتداخل مع الأخرى، كما فعل بوفال في كتابه “لغز الجبار”، وقد قام بقلب اتجاه إحدى الصور لتظهر مزعومة، حيث قلب الاتجاه الشمالي لتتناسب مع الاتجاه الجنوبي الذي أظهره، لتجنب ظهور الهرم الوسطى والنجمة المتوسطة على الطرفين المعاكسين.
بدون افتراضات سطحية. على سبيل المثال، اقترح “خاريتي لال جاوري”، أستاذ الجيولوجيا بجامعة لويفيل الأميركية، أن التفتت الصخري الذي حدث لأبو الهول ليس في حاجة إلى هطول مطر غزير بشكل متواصل، بمجرد أن ترتقب نقاط الندى الصباحية التي تُستَقْبِلها الثغرات في الصخر الجيري ثم تتبخر في الصباح تاركة نوعًا من الملح يمكنه تسبب هذا الأثر.
أما جيمس هاريل، الجيولوجي من جامعة توليدو بولاية أوهايو الأميركية، يعزو تلك التجاويف إلى امتصاص الرمال التي تحيط بأبو الهول على مدى فترة طويلة من ماء المطر الطبيعي، مما يُثير تفاعلًا يُحول شكل الحجر الجيري. قد دخل متخصصون آخرون كالفيزيائي والجيولوجي روبرت شنايكر إلى هذا الصراع، وافترضوا أن هناك أدلة تشير إلى أن هذه التعويجات لم تنشأ بسبب الأمطار بل تم تركها بهذا الشكل من قِبل الفراعنة القدماء أثناء بناء أبو الهول.
ورغم أن الجدل لا يزال قائمًا بين الجيولوجيين وغيرهم، إلا أن هناك توافقًا على أن تقدير عمر أبو الهول يتأتى لعلم الآثار وليس الجيولوجيا، والذين يقومون بطرح أسئلة لفهم كيف تم بناء هذا التمثال وتأثير البيئة عليه.
والجانب الأهم في هذا السياق هو التأكيد على خطورة انتقاء الأدلة في محاولة الإثبات أو النفي، حيث يسلط الضوء البعض على الأدلة التي تؤيد الرأي الخاص أمام الجمهور، متجاهلا الدلائل المتناقضة، مما يظهر للباحث عن المعرفة أن هناك دليلًا فقط يعتبر صحيحًا.
النجوم والأهرام: التاريخ في مواجهة الأسطورة
فيما سبق، قد استكشفنا مجموعة من النظريات التي تحاول إثارة المجهول على حساب المنطق والتاريخ، ليحل محل الأسطورة والخرافة والأفكار المبهمة التي لا تصمد أمام الاختبار العلمي الحقيقي. ونبدأ في هذا القسم من التقرير بتقديم البديل العلمي الذي يفسر ظاهرة الأهرامات وأبو الهول بعيدًا عن المؤثرات الخرافية التي تدعي وجود تكنولوجيا متطورة قامت بتوجيه هذا البناء.
أما قضية الفراعنة والنجوم، خاصة نجوم الجبار، فقد تم طرح في الستينيات من القرن الماضي فرضية علمية ناقشتها مجموعة من علماء الآثار تقول بأن الفتحات الصغيرة الممتدة من غرفة دفن الملك داخل الهرم الأكبر إلى خارج الهرم ليست لأغراض التهوية، وإنما كانت لها علاقة بنجوم السماء. فإحدى تلك الفتحات تنطلق من مكان دفن الملك في خط مستقيم إلى موضع نجم الثعبان الذي كان يُعتبر “نجم الشمال” في تلك الفترة، وقد اعتبر الفراعنة أنه مكان نهائي للملك أثناء رحلته بعد الموت، بينما تنطلق الفتحة الأخرى من مكان الدفن في خط مستقيم في الاتجاه المعاكس نحو مجموعة نجوم الجبار، ونظرًا لأن حزام الجبار كان يُعبد كساح أو أوزوريس (إله مصري قديم) كما أشرنا، فيعتقد أنه الشكل الذي سيظهر فيه ملك ما في الحياة الأخرى.
إذن، لا يُنكر العلماء وجود تواصل بين نجوم الجبار والأهرامات، بل يقدمون بالفعل اقتراحًا لارتباط ذلك، ولكن هناك نقطتان نستطيع أن ننتقل منهما في هذا السياق. أولًا، أن هؤلاء العلماء؛ إنجازهم التفسيري لن يُعتَبَر فعّالًا إلا بإصدار أبحاث جدية للبحث حولها، وتراكم المعرفة بشأنها، حتى يصلوا لتأكيدات يتفق عليها العلماء، وبالتالي لا أحد منهم يُدلي بالتأكيد بنفس الطريقة التي يتحدث بها منظرو الحضارة المفقودة، الذين عادةً ما يتجاهلون نطاق الأبحاث العلمية وينتقلون مباشرة إلى الجمهور، سواء من خلال نشر الكتب، وهو نشاط شائع جدًا في هذا السياق، أو بث وثائقيات أو حتى مقاطع فيديو على اليوتيوب، من دون أي خطوات بحثية جادة وسليمة.
الثاني، ستجد أن العلماء عادةً ما يتخصصون في نقطة معينة، حيث يعملون غالبًا في مجالات ضيقة، أما منظرو نظرية الجبار وحضارة المفقودين فسيبنون علم آثار كاملًا على افتراض واحد لا توجد لديه دلائل واضحة. وهذا يتعارض مع المنطق الأرسطي للمناقشات المستبعدة، حيث يكون التفوق بدون مبررات.
وإضافة إلى ذلك، فإن العلماء عادةً ما لا يقفزون لاستنتاجات كبيرة من فرضيات بسيطة، فإذا افترضنا على سبيل المثال أن هناك ارتباطًا حقًا بين الأهرامات ونجوم كوكبة الجبار، فذلك لا يعني بالضرورة أن هذه الأهرامات قد بنيت قبل 10 آلاف سنة. العلم هو وعي بالشيء على حقيقته بطريقة قطعية، ويتم الوصول إلى هذه الحقيقة من خلال تفسيرات وتنبؤات تتابعها بشكل منطقي، ويمكنها أن تتحمل الاختبار والتحليل والتجربة. لذلك من الضروري القول بأن ما يروج له دعاة الحضارة المفقودة لا يُعتَبَρ علميًا.
بناة الأهرام.. في البداية كانت المصطبة
تبرز عجائب النظريات مثل نظرية الكائنات الفضائية القديمة أو الحضارة المفقودة أيضًا في تفسير بناء الأهرامات، حيث ادعي أنها من الحجم الضخم بحيث يصبح من الصعب على البشر العاديين بناؤها بدون تقنيات متقدمة، حتى لو وفرت لهم جميع الموارد الهندسية
الممتلكات الحالية غير قادرة على رفع الحجارة. يعتمد هذا الزعم على افتراض أننا غير عارفين شيئًا عن تشييد الأهرامات بداية، ويبدو وكأن الأهرامات المصرية الثلاثة ظهرت فجأة كأنها نشأت من العدم بسحر فوري.
في الواقع، مصر معروفة بثلاثة أهرامات فقط، ولكن لديها في الحقيقة أكثر من مائة هرم على ضفاف النيل، وإذا درس علماء الآثار الأهرامات السابقة لأهرامات الجيزة سيلاحظون تطورًا واضحًا في هياكلها مع مرور الزمن. يظهر أن الهرم الأكبر كانت نتيجة لمحاولات سابقة خاطئة في بعض الأحيان وناجحة في غيرها، بدءًا من هرم ميدوم المدمر إلى هرم سنفرو المائل إلى هرم خوفو.
بُنيت هرمات بناءً على تطور الهندسة. قبل قرون من بناء الأهرامات الثلاثة الكبرى، ابتكر المصريون القدماء فكرة “المصطبة” كقاعدة للتفكير الهرمي، وتعد مبنى بسيطًا مُرتفعًا عن الأرض بشكل مستطيلي وسطح مستو.
استُخدمت المصاطب كمقابر لبعض الملوك في مصر القديمة. على سبيل المثال، يمكنك مشاهدة مقبرة الملك “شبسسكاف” المعروفة باسم مصطبة فرعون في مدينة أبيدوس. الأصلية من المصاطب كانت مجرد تكديس تراب فوق قبور بدائية، وتطورت بعد ذلك إلى الهرم الذي يتألف من مصاطب متعددة، حيث انخفضت المساحة كلما تجاوزت الارتفاع، وهذا هو المبدأ البسيط الذي يضمن التوازن مع الجمالية؛ مثال على ذلك هو هرم “زوسر” المدرج.
متأخر كل صناعة خير من المتقدمة
اخضع بناء الأهرام للتجارب والقواعد العلمية، مع عنصر من الخطأ الذي يُلزمه التفكير العلمي. يمكن أن نرى هذه الأخطاء أيضًا في بناء بعض الأهرامات، مثل “هرم سنفرو المائل”، الذي سُمي كذلك بسبب بنائه بزاوية صعود 58 درجة، ولكن بعد بناء نصف الهرم تبين أن الزاوية كانت خاطئة، فقرروا استخدام زاوية 43 درجة.
تسبب هذا الخطأ في اكتشاف أفكار أفضل لبناء هرم بناءً على تقنيات مبتكرة في دهشور، بالقرب من “هرم سنفرو المائل”، وهو الهرم الأحمر، الذي هو الهرم الثالث للملك سنفرو، والذي بُني برأس بزاوية 43 درجة مثل الجزء العلوي من الهرم المائل. هذه الأهرامات مثلت نموذجًا لبناء هرم خوفو في وقت لاحق، مما يؤكد على قول ابن النفيس: “متأخر كل صناعة خير من المتقدمة”.
كشفت مقالات البردي التي عُثر عليها في عام 2013 بوادي الجرف بالقرب من البحر الأحمر عن استخدام الملك خوفو لفرق عمل مهرة في البناء، حيث كانت كل فرقة تتكون من حوالي 200 عامل تقريبًا، كانوا يُشرف عليهم المفتش “ميرير”. تنقسم الفرق إلى مجموعات، حيث يتلقى كل مجموعة أمرًا بتنفيذ مهمة معينة، مثل نقل الحجارة الجيرية بواسطة القوارب على طول نهر النيل لمسافة 18 كيلومترًا من حلوان إلى الجيزة (حيث بُني الهرم الأكبر). وعند وصول الحجارة إلى الهرم، تُسحب الصخور على جسر مائل باستخدام الزلاجات والبكرات والرافعات.
٢٠ سنة و ١٠٠ ألف عامل.. تلك هي المسألة
بالإضافة إلى التطور المعماري لبناء الأهرامات، وفقًا للمؤرخ اليوناني هيرو دوت، استغرق بناء الهرم الأكبر 20 عامًا واحتاج إلى ١٠٠ ألف عامل. هذه هي المسألة الفارقة، حيث كان لدى المصريين القدماء ما يكفي من الوقت والعمالة الماهرة التي سمحت لهم ببناء هرم بهذا الحجم والتعقيد. كشفت الأدلة أيضا عن وجود قوى عمل عاشت في موقع البناء لسنوات في مدينة مخصصة لهم، وتظهر الأبحاث أنه كان هناك على الأقل ٢٠ ألف عامل، بالإضافة إلى الخبازين والأطباء والكهنة، كانوا كافيين لهذه المهمة بشكل طبيعي، من دون الحاجة إلى تكنولوجيا متطورة أو حضارة مفقودة.
الأدوات المستخدمة في بناء الأهرامات مازالت معروضة في المتاحف المصرية، والحجر المستخدم في بناء الأهرامات (الحجر الجيري) سهل قطعه ونحته بدون الحاجة إلى تقنيات متطورة. حاليًا، يمكن رؤية بعض مقاطع الفيديو على الإنترنت تُظهر تلك العمليات.عالية توضح كيف يستطيع رجل واحد بمساعدة مجموعة من العاملين وزلاجة كبيرة تقسيم صخرة أطول منه إلى نصفين وتحمل أعباء تصل إلى عشرات الأطنان. بالإضافة إلى الاعتماد على قوانين فيزيائية بسيطة كانت معروفة للقدماء، مثل الاحتكاك والعزم. يُمكن استخدام محور أو نقطة ارتكاز مناسبة لزيادة القوة الميكانيكية التي يمكن تطبيقها على جسم آخر.
هذا عن التكسير وفلق الحجارة الضخمة، كيف ننسى دور الروافع؟
هُنا نرى أن أقدم دليل على وجود الروافع في منطقة الشرق الأوسط القديمة كان حوالي 5000 قبل الميلاد. وفي مصر القديمة، هناك أدلة تشير إلى استخدامها حوالي 4400 قبل الميلاد، حيث استخدم العمال الروافع لنقل ورفع الأحمال التي تزيد وزنها عن 100 طن. قد لا تصدق أن أرشيميدس، قبل أكثر من 2200 عام، قال: “أعطني رافعة كافية ونقطة للارتكاز، وسأرفع الأرض”. كان أرشيميدس يقصد بذلك أن طول الروافع يمكنه رفع أي شيء بغض النظر عن وزنه. ومثل الرياضيات، كانت هذه المعارف معروفة منذ العصور القديمة، وكان أرشيميدس يعرف الروافع ولكنه كان يحلم بامتلاك واحدة ضخمة يمكنها رفع الأرض.
وعندما نتحدث عن الهندسة وأرشيميدس، ستجد أنه من السهل رياضياً تبرير الكثير من ما يعتبر “غرائب” أو “عجائب” بناء الأهرامات، بواسطة الأدوات والتقنيات المتاحة في ذلك الوقت. على سبيل المثال، يمكن بسهولة توجيه هرم نحو الشمال بدقة إذا كنت تعرف الأساسيات حول حركة النجوم. يمكنك أيضًا بناء زوايا قائمة بدقة إذا كنت تمتلك معرفة بسيطة بالمثلثات، وفي الحقيقة، في مصر القديمة وحضارات ذلك الوقت، كانت هذه المعارف معروفة.
على سبيل المثال، تأمل البردية الرياضية لرايند، المحفوظة حتى الآن في المتحف البريطاني في لندن، إلى جانب العديد من الآثار المصرية، ستجد فيها صور تمثل الكسور وحسابات مخزون الحبوب والأراضي.
هناك شيء مُخفي
البحث العلمي لم يصل بعد إلى كل تفاصيل بناء الأهرامات. يعلم الخبراء أن هناك بعض الغموض مازال موجودًا، ولكن “الغموض” لا يعني دائمًا “حضارة قديمة مفقودة” أو “وجود كائنات فضائية”، بل يعني أن ثمة جوانب لا نعرفها بعد والبحث العلمي سيستمر في حلها. في دراسة عام 2014، أظهرت مجموعة متنوعة من علماء الفيزياء بقيادة البروفيسور “دانييل بون” من جامعة أمستردام، نشرت في مجلة “فيزيكال ريفيو ليترز”، أن إضافة كمية صغيرة من الماء يمكن أن تقلل بشكل كبير من قوة الاحتكاك عند الانزلاق على الرمال، مما يسهل سحب الأشياء على الرمال. استوحى الباحثون ذلك من مشهد جداري في مقبرة جيحوتي حتب التي يعود تاريخها إلى عام 1900 قبل الميلاد، حيث يُظهر أحد العمال يضع الماء على المسار لتسهيل الحركة، واكتشفوا أن الاحتكاك يمكن أن ينخفض بنسبة 50% باستخدام كمية مناسبة من الماء.
الخروج إلى الميدان العام: تجاهل النشر في المجلات العلمية الموثوقة والاندفاع باتجاه الجمهور العام بإصدارات أدبية أو عروض أو وثائقيات أو برامج لعرض نتائج كشف الجديد. الانتقاء: إغفال أو التقليل من شأن البراهين التي تتعارض مع الافتراض، وتجميع القصص من مصادر متعددة لإنشاء قصة براقة يمكن للجمهور تصديقها. إساءة تفسير الغموض: تصويره كشيء غامض وساحر، بدلًا من فهم آليات عمل الأمور، حيث يرتبط الغموض بحضارة متقدمة، أو مفقودة، أو كائنات فضائية. الانتقال السريع إلى الاستنتاجات: التوصل لفكرة ثم الانتقال فجأة إلى نظرية كبرى دون مراحل وسيطة. تجاهل السياق: تناسي السياق التاريخي والعلمي لتقديم نظرية جديدة مثيرة بدون دليل. التلاعب بالنتائج: تزوير البيانات لتعزيز ادعاءات معينة. اللجوء إلى نظرية المؤامرة: تصوير العلم التقليدي على أنه جزء من مؤامرة لإخفاء حقائق هامة تعرفها فقط فئة محدودة. ادعاء عدم وجود دليل: تقديم تفسيرات خفيفة للتقليل من أهمية البراهين وتبديلها بالخيال والتكهنات. الجهل بالمعرفة: عدم فهم أساسيات المعرفة العلمية مما يؤدي إلى تفسيرات غير دقيقة للحقائق.
بعد كل هذا السرد، نصل إلى نقطة النهاية، حيث تطرح أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كولورادو سارة كورنيك سؤالًا مهمًا: هل سمعت من قبل من النظراء الذين يتبنون هذه الأفكار الوهمية ما يذكرون أن المباني الشهيرة مثل الكولوسيوم في روما بُنيت بتقنيات استنتجت من علماء غير الرومان أنفسهم؟ أو أن البارثينون في اليونان لم يتم بناؤه من قبل اليونانيين بل تلقوا المساعدة من خارج؟ بالواقع، سيعتبرون هذه الادعاءات مغلوطة، لأن المروجين لعلم الآثار الوهمي عادة ما ينتمون إلى التيارات المتطرفة التي تؤمن بـ “تفوق العنصر الأبيض”، حيث تقدم نظريات الفضائيات القدماء أو غيرها كدليل على عدم كفاءة سكان أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا لبناء هذه المعالم الكبيرة أو امتلاك المعرفة الكافية لبناء حضارات عظيمة، وبالتالي يدعون أن تورطت كائنات فضائية أو أنبياء أو الإله مباشرة في مساعدتهم.
تم تقديم علم الآثار الوهمي لأول مرة بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى في 1918، حيث بدأت الحكومة النازية بدعم الأبحاث التي تخص تاريخ ألمانيا القديم قبل التاريخ الأوروبي، وقد أدرجت منظمات نازية مثل “أمت روزنبرغ” و “أهنيربي” (وهتلر لاحقًا) استخدام العلم الوهمي في حملاتهم الدعائية لتسليط الضوء على تاريخ ألمانيا كبدايات الحضارة البشرية.
في بحثهم، يذكر جاريت فاجان وكينيث فيدر من جامعة بنسلفانيا الأميركية أن مروجي علم الآثار الوهمي يتبنون عادة وجهات نظر متطرفة وعنصرية ومملؤة بالكراهية. وأضاف العالم الأميركي لعلم الآثار جون هوبس في مجلة جمعية علم الآثار الأميركية: “يسهم علم الآثار الوهمي بشكل ملحوظ في نشر الأساطير لصالح تعزيز التحامل العنصري والقومي والاستعمار ونزع الملكيات وقمع الثقافات الأصلية”. ولكن يُلاحَظ أننا نركز هنا بشكل خاص على المعضلات المتعلقة بالآثار المصرية لأنها الأكثر شهرة عالميًا، ولكن علم الآثار الوهمي يُطبق على جميع الآثار القديمة في القارات المختلفة.
يعتبر العلم الحقيقي للآثار مملًا وغير مشوق للجماهير لأنه لا يشتمل على المغامرات الشيّقة كأفلام “إنديانا جونز”، ولذلك ينتشر علم الآثار الوهمي مثلما انتشر في السابق، فمن المثير للاهتمام أن إيلون ماسك نفسه انخرط في هذا النوع من التفكير حين قال في تغريدة قبل عامين: “الواقع يظهر أن الهيكل الأثري بُني من قبل كائنات فضائية!”، حيث يعتقد 57% من الأمريكيين، بحسب إحصاءات، بالأفكار المشابهة لفكرة الكائنات الفضائية القديمة.
لم ينكر علماء الآثار وجود حضارة مفقودة، بل على العكس تمامًا، فقد تغيرت أفكارهم حول الماضي البعيد مرارًا مع الاكتشافات الجديدة. وبعد أن كانوا يعتقدون يومًا ما أن البشر قديمًا كانوا ضعفاء في الإنتاج وأكثر اهتمامًا بأمور الحياة اليومية، نعلم الآن أن لديهم ثقافة وفن، وعرفوا بعض الرياضيات والفلسفة، وهذا ملحوظ في العديد من العلوم التي تدرس الحضارات القديمة من العلم الإنساني إلى علم الأحياء، ولكن في النهاية يجب أن يكون هناك دليل قوي يقف ضد النظرية السائدة التي يتفق عليها العلماء ليغيروها. ومع ذلك، علم الآثار الواهم ليس سوى قصاصات من هنا وهناك، غالبًا ما تُنشر في كتب أو مقاطع فيديو أو أفلام وثائقية وليس في مجلات بحث.
علم الآثار الوهمي ضخم، ومنتشر في كل مكان وفي كل حضارة، وادعاؤه كثيرة جدًا لدرجة أنه يمكننا ملء عدة كتب لنفيها، ولكن كان هدفنا إعطاء بضعة أمثلة فقط، متعلقة بالحضارة المصرية القديمة لأنها الأكثر انتشارًا على الصعيدين العربي والعالمي، لتوضيح أوهام عمليات التفكير التي يتبعها هؤلاء للوصول إلى نتائجهم.