مفرطات الطاقة النووية التكتيكية.. هل يستيقظ العدو الكامن من نومه العميق؟
ولم تستخدم أي قوة الفَرَسَ النووية في الحرب مِنذ أن شنت الولايات المتحدة أولى هجماتها بالفَرَسَ المَدنِيَتَيْن النوويتَين على مدنهي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في عام 1945. وبسبب التدمير الكبير الذي أحدثته الفَرَستان اللتان قُدر حجمهما بـ”15 كيلو طن من المتفجرات”، سعت الدول ذات القدرات النووية إلى امتلاك فَرْس التدمير التكتيكية لا يُحقِق القدر نفسَه من التدمير، لكنها يمكن أن تكون ذات أهمية في تحقيق ما
يمكن تعبير عنه باسم “الترهيب النووي”.
بوتين استخدم هذا السلاح في عام 2014 أثناء غزو روسيا لشبه جزيرة القرم عندما أشار إلى جاهزية الأسلحة النووية. كما هددت روسيا في عام 2015 سفن الحرب الدانماركية بالأسلحة النووية إذا انضمت الدانمارك إلى نظام الدفاع الصاروخي التابع لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تهديدات نووية عدة، بما في ذلك إشارته في مارس/آذار 2023 إلى موافقته على نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، التي تعد حليفاً لموسكو. ولكن التهديد الأكبر جاء يوم الاثنين الماضي عندما أعلنت روسيا نيتها لتنفيذ تدريبات عسكرية تتضمن نشر أسلحة نووية تكتيكية، رداً على التصريحات والتهديدات المستفزة الصادرة عن فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
تقوم القوى النووية الكبرى بفحص أسلحتها النووية بانتظام، ولكن نادراً ما تقوم بربط هذه التدريبات بتهديدات محددة كما فعلت موسكو يوم الاثنين الماضي، حيث ذكرت وزارة الدفاع الروسية أن “التدريبات التي تشمل التجهيز والنشر لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، ستكون رداً على التصريحات والتهديدات الاستفزازية الصادرة عن بعض المسؤولين الغربيين ضد الاتحاد الروسي”.
ابتزاز نووي أم خطر حقيقي؟
حتى الآن، لم يبدو أن الغرب وأميركا يعتبرون جدياً هذه التهديدات، حتى قال المتحدث الرسمي باسم المخابرات العسكرية الأوكرانية “أندريه يوسوف”: “لسنا نرى أي حدث جديد، إن الترهيب النووي يعد جزءاً من سياسة بوتين المستمرة”. وهذا يتماشى مع تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن العام الماضي عن عدم وجود احتمال حقيقي لاستخدام روسيا للأسلحة النووية.
المفتش السابق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الدكتور يسري أبو شادي، يرى أن “هذه الثقة الغربية لا تعكس فهماً حقيقياً لخطورة الوضع”. ويعتبر أبو شادي أن التحدث المتكرر عن نوعية الأسلحة النووية التكتيكية التي ينوي استخدامها الروس في الوقت الحالي، يعكس نية روسية للاستخدام إذا شعرت موسكو بتهديد لأمنها نتيجة للدعم العسكري الغربي لأوكرانيا.
ويضيف: “روسيا لا ترغب في حرب نووية واسعة النطاق، لذلك تقيد تدخلها بالأسلحة النووية التكتيكية، وإذا اضطرت لاستخدامها، ستتنبأ بأهدافها بحذر لتجنب الخسائر الكبيرة، ولكن في نفس الوقت، ترسل رسالة ترهيبية نووية للغرب”.
ويخشى أبو شادي من تصعيد ردة فعل الغرب، حيث إذا تجاوزت التهديدات النووية التكتيكية، قد تفتح الباب للتفكير في استخدام القنابل الانشطارية والاندماجية، مما سيؤدي إلى حرب نووية مدمرة تهلك العالم.
“الولد الصغير” في مقابل “الرجل السمين”
الأسلحة النووية التكتيكية هي “الولد الصغير” للقنابل الانشطارية التي تعد جزءاً آخر من النووية، وهي قنابل نووية استراتيجية أو ما يُعرف بـ “الرجل السمين”، مثل تلك التي أسقطت على هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية.
تشير الأستاذة في العلاقات الدولية بقسم العلوم السياسية في جامعة براون الأميركية “نينا تانينوالد” في مقالها الذي نُشر على “ساينتفيك أميركان” بأن “الأسلحة النووية التكتيكية موجهة ضد أهداف محددة مثل تجمعات القوات العدوة أو الوحدات المدرعة أو المنشآت العسكرية، وليس ضد المدن أو التجمعات السكانية الكبيرة، على عكس القنابل النووية الاستراتيجية”.
وتضيفتانينوالد صاحبة كتاب “المحرمات النووية.. الولايات المتحدة وعدم استخدام الأسلحة النووية منذ عام 1945” الفائز بجائزة “ليبغولد” لعام 2009 لأفضل كتاب في العلاقات الدولية، يقول إن “غالباً ما تكون القدرة التدميرية للسلاح النووي التكتيكي حوالي كيلو طن واحد أو أقل من المتفجرات، ويمكن تحميلها على أنواع مختلفة من الصواريخ التي تحمل عادة رؤوسا تقليدية مثل الصواريخ المجنحة وقذائف المدفعية، ويمكن أيضا إطلاقها من الطائرات والسفن، بينما القنابل النووية الإستراتيجية التي تصل قوتها التدميرية إلى ألف كيلو طن، فتطلق عادة من مسافات بعيدة عن طريق استخدام الصواريخ البالستية عابرة القارات”.
وتعد روسيا والولايات المتحدة أكبر قوتين نوويتين في العالم بفارق كبير، وتمتلكان رؤوسا نووية إستراتيجية وتكتيكية تقدر بأكثر من 10600 رأس نووي من أصل 12100 رأس نووي في العالم، وتمتلك الصين ثالث أكبر ترسانة نووية، تليها فرنسا وبريطانيا، وتمتلك روسيا نحو 1558 رأسا نوويا تكتيكيا، وذلك وفقا لإحصائيات اتحاد العلماء الأميركيين.
السر في الانشطار النووي
سواء كانت القنابل تكتيكية أم إستراتيجية، يكمن سر قوتها في الانشطار النووي كما يقول عالم الفيزياء النووية والمستشار العلمي بشركة “هاليبرتون” الأميركية الدكتور علي عبده في حديث هاتفي مع “الجزيرة نت”.
يعني الانشطار النووي انقسام النوى الذرية الثقيلة إلى نوى أصغر، مما ينتج عنه إطلاق كمية ضخمة من الطاقة. وتستخدم الأنواع الأكثر شيوعًا من القنابل الانشطارية إما “اليورانيوم 235” أو “البلوتونيوم 239” كمواد انشطارية.
يوضح أنه “اعتمادًا على كيفية جمع المواد الانشطارية معًا لتحقيق كتلة فوق حرجة وبدء التفاعل المتسلسل، يمكن أن تكون تلك القنابل إما تكتيكية أو إستراتيجية”. ويضيف أن هناك ما هو أقوى تدميرًا من تلك القنابل الانشطارية بنوعيها، وهي القنابل الاندماجية أو ما يطلق عليها أيضًا “الهيدروجينية”.
تستخدم القنابل الاندماجية عملية من مرحلتين تتضمن تفاعلات الانشطار والاندماج، فالمرحلة الأولى هي تفاعل انشطاري مشابه للقنبلة الانشطارية ينتج عنه درجات حرارة عالية وضغوط لبدء تفاعل اندماجي ثانوي، وتتضمن تلك المرحلة اندماج النوى الذرية الخفيفة، وعادة ما تكون نظائر الهيدروجين (الديوتيريوم والتريتيوم)، مما ينتج عنه إطلاق كميات أكبر من الطاقة مقارنة بالانشطار وحده.
يقول عبده: “تعتبر الأسلحة الاندماجية أقوى بكثير من الأسلحة الانشطارية، وهي قادرة على إنتاج انفجارات تفوق قنبلتي هيروشيما وناغازاكي ألف مرة”.
تجارب نووية أخطرها “قنبلة القيصر”
منذ استخدام الولايات المتحدة القنبلتين النوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في عام 1945، لم تُستخدم الأسلحة النووية بأنواعها المختلفة في النزاعات، وإن كانت القوى النووية حريصة على إجراء التجارب النووية التي وصلت إلى نحو ألفي تجربة، كما يقول الخبير السابق بالوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور يسري أبو شادي.
وكانت أخطر التجارب “قنبلة القيصر” التي فجرها الاتحاد السوفياتي السابق عام 1961، وتنتمي إلى النوع الأكثر تدميرا وهو القنابل الهيدروجينية. واحتوت تلك القنبلة التي جرت تجربتها في القطب المتجمد الشمالي، على نحو 50 ميغا طن من مادة “تي إن تي” (الميغا طن يعادل مليون طن من مادة “تي إن تي” شديدة الانفجار)، مما يجعلها أقوى قنبلة نووية اختبرت على الإطلاق.
وتسببالتفجير بكرة ألسن// نارية هائلة ولهب كبير، بالإضافة إلى سحابة “سابقة اللحظة” النووية التي ارتفعت إلى نحو 64 كيلومترًا (40 ميلاً) في السماء، وشعر الناس بصدمة الانفجار على مسافات بعيدة من مكان الانفجار.
سبّب الانفجار أضرارا هائلة في المباني والأشجار في محيط موقع الاختبار، وكان قويًا إلى الدرجة التي تسبب في حروق من الدرجة الثالثة للأفراد على بُعد يصل إلى 100 كيلومتر من موقع الانفجار. بالإضافة إلى ذلك، أنتج الانفجار كميات ضخمة من الإشعاع التي انتشرت على نطاق واسع، وتسببت في آثار بيئية وصحية طويلة المدى.
أدعى أبو شادي: أن “هذا التفجير التجريبي أظهر القوة الرهيبة للأسلحة النووية، وساهم في الجهود العالمية للحد من انتشارها من خلال اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية. لذا، ينبغي لنا القلق عندما تنسحب روسيا مؤخرًا من بعض هذه الاتفاقيات، فهي ترسل إشارة بأنها مستعدة لاستخدام السلاح النووي في المعركة”.
كانت روسيا واحدة من البلدان التي وافقت ووافقت على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. ومع ذلك، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوقيع قانون انسحاب روسيا منها في 2 نوفمبر 2023.
وقد تم اعتماد هذه المعاهدة الدولية من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 1996، وفُتحت للتوقيع في 24 سبتمبر 1996، وتهدف إلى حظر جميع التجارب النووية سواء ذات أغراض مدنية أو عسكرية في كل البيئات، بما في ذلك تحت سطح الأرض وفي المياه وفي الهواء.
وقبل ذلك، وقع بوتين في فبراير 2023 على قرار الانسحاب من معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية الجديدة (نيو ستارت)، وهي معاهدة ثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا تهدف إلى تقليل ترسانتهما من الأسلحة النووية الإستراتيجية وأدخلت حيز التنفيذ في 5 فبراير 2011.
تغيير الفلسفة النووية الروسية
وعلى الرغم من أن التجارب النووية الضخمة كانت التي دفعت الجهود العالمية نحو تحقيق تلك المعاهدات، يجب على الجميع أن يدرك خطورة استخدام سلاح نووي تكتيكي ضد أهداف محددة.
بالإضافة إلى مخاوف أبو شادي السياسية من أن الاستخدام الأمثل للسلاح النووي يمكن أن يتحول إلى استخدام أسلحة نووية إستراتيجية وهيدروجينية، تقول نينا تانينوالد في مقال لها على موقع “ساينتفيك أميركان”: إنه “حتى السلاح النووي ذو القوة الصغيرة (0.3 كيلو طن) قادر على تسبب أضرار تفوق بكثير تلك التي يمكن أن تخلفها المتفجرات التقليدية”.
تضيف أن “يمكن لذلك أن يسبب كوارث مثل هيروشيما وناجازاكي على نطاق أصغر، مع إطلاق كرة اللهب وموجات صدمية وإشعاعات قاتلة قد تتسبب في صحة ضارة طويلة المدى للناجين، بالإضافة إلى أن الغبار المشع يمكنه تلويث الهواء والتربة والمياه والأغذية.”يرى أبو شادي أنه ليس في مصلحة أوروبا وأميركا فرض تغيير في فلسفية النووية الروسية، حتى بالنظر لاستخدام السلاح النووي التكتيكي.
وفقًا لتقرير لوكالة رويترز، تتوافر دعوات داخل روسيا للمطالبة بتغيير الفلسفة النووية الروسية، التي تنص على أن استخدام مثل هذا السلاح يتم كرد فعل على هجوم بأسلحة نووية أو غيرها من الأسلحة الدمارية، أو استخدام الأسلحة التقليدية ضد روسيا “عندما تكون الدولة نفسها تحت التهديد”.
وعلى الرغم من أن بوتين أعلن العام الماضي أنه لا توجد حاجة لتغيير الفلسفة النووية، يعتقد أبو شادي أن التطورات الأخيرة مع إعلان أوروبا وأميركا دعمًا عسكريًا غير مسبوق لأوكرانيا قد يجبره على تغييرها.