قيم ثقافية ورؤى زمنية.. تفاوت تصوّرات المستقبل بين معمارَ الدولتين العربية والغربية

Photo of author

By العربية الآن



قيم ثقافية ورؤى زمنية.. تفاوت تصوّرات المستقبل بين معمارَ الدولتين العربية والغربية

- - night,view,of,the,streets,of,the,old,arab,cityperth.,cityscape,image,of,perth,downtown,skyline,,australia,during,sunset.
الفن مرآة قوية تلتقط جوهر روح الثقافة كما يظهر ذلك في تفاوتات العمارة (شترستوك)
التفاعل بين البيئة والإدراك في نسيج الوجود البشري الواسع يؤثر بعمق على رؤيتنا الجماعية للمستقبل. وتستكشف هذه الرحلة الفسيفساء المعقدة للآفاق العربية والغربية تجاه المستقبل، مع فحص كيفية تشكل البيئات المتنوعة للوعي الجمعي لكل من الجماعتين.

وتقف جمالية الأراضي القاحلة والكثبان الرملية المتغيرة باستمرار في تناقض مع التلال الخضراء والمناظر الطبيعية الغنية في الغرب، حيث تترك كل بيئة أثرها اللافت على التعبيرات الثقافية، من السرد الأدبي والمعتقدات الدينية إلى المعالم المعمارية. ومهمتنا هي كشف الخيوط التاريخية التي تنسج معًا مختلف التصوّرات الزمنية والطموحات.

الظروف القاسية للصحراء وقلة موارد الحياةفيها تدفع سكانها لاستكشافها بأساليب مبتكرة ومتنوعة بحثًا عن طرق جديدة للبقاء تحت تلك الظروف القاسية. ولذلك، يميل سكانها لاعتبارها كنص مفتوح: حيث تتيح مرونتها ودفقتها تفسيرات ثقافية مُتعددة، مما يجعلها رمزًا فعالًا لصمود البشرية وشاهدًا على مرونتهم في المواجهة مع التحديات.

الرموز الثقافية والسيمياوية البيئية

في الثقافة العربية، تُعتبر الصحراء أكثر من مجرد تضاريس جغرافية، بل هي رمز ثقافي عميق يحمل معانٍ متعددة. وفلسفة “العمل المفتوح” لأومبرتو إيكو تكون ذات أهمية خاصة في هذا السياق. حيث يتناول إيكو الأعمال الفنية والنصوص التي تكون ذات طابع غامض أو ناقص، ما يتيح مجموعة واسعة من التفسيرات من قبل الجمهور. وعند تطبيق هذه الفلسفة على الصحراء، تجبر الظروف الصعبة فيها ونقص الموارد الحيوية سكانها على استكشافها بأساليب إبداعية ومتنوعة بحثًا عن طرق جديدة للبقاء تحت تلك الظروف. وبالتالي، يميل سكانها لاعتبارها كنص مفتوح: حيث تتسع تفسيراتها وسيولتها لتشمل طروحات ثقافية مُتباينة، مما يجعلها رمزاً شديد الفعالية لصمود الحياة وشاهدًا على مرونة البشر في مواجهة تحديات البقاء.

غالبًا ما تُرمز المناظر الطبيعية الخضراء وسخاء موارد الحياة المستتمرة في الغرب إلى الاستمرارية والاستقرار وإرث يتخطى هشاشة الحياة البشرية، تعمل هذه المناظر الطبيعية كرموز ثقافية لمجتمع يرفع قدرته على السيطرة والتسلط سواء في بيئته أو في منتجاته الثقافية.

وبالمقابل، يمكن تحليل المناظر الطبيعية الخصبة والمستدامة في العالم الغربي باستخدام نظرية إيكو عن “النصوص المغلقة” وفقًا لما ورد في كتابه “حدود التفسير”. النصوص المغلقة تكون تلك التي تكون فيها المعاني أكثر تحديداً وقيدًا، مما يوجه المشاهد أو القارئ نحو تفسيرات محددة.

غالبًا ما يُرمز المناظر الطبيعية الخضراء وسخاء موارد الحياة المستتمرة في الغرب إلى الاستمرارية والاستقرار وإرث يتخطى هشاشة الحياة البشرية، تعمل هذه المناظر الطبيعية كرموز ثقافية لمجتمع يرفع قدرته على السيطرة والتسلط سواء في بيئته أو في منتجاته الثقافية. ويظهر هذا بالوضوح في السرديات الغربية للتقدم، حيث يُنظر إلى السيطرة على الطبيعة من خلال التطوير الزراعي والتنمية الحضرية كمؤشرٍ على تقدم الإنسان وتفوقه.

الفن كمرآة ثقافية

الفن يعتبر مرآة قوية تعكس جوهر الحضارة والثقافة. ونجده يتجلى بوضوح في العالم العربي، حيث تحكي الصحراء قصص التحول والتأقلم، وكثيرًا ما تجسد التعبيرات الفنية إيقاع الحياة الديناميكي على الرمال المتحركة. تعكس الزخارف العربية المعقدة والأنماط الهندسية الساحرة في الفن الإسلامي القوانين العلمية والنظام التي تقوم عليه هذه الحضارة المتغيرة باستمرار، لتعبر عن رغبة الإنسان العربي في الثبات والجذور والاستقرار في كل ما هو ثابت وغير متغير.

وعلى النقيض، تعكس الفنون الغربية، التي تكتسي سمات بيئة خضراء، مفاهيم الدوام والخصوبة، يتجلى ذلك واضحًا في عصر النهضة، حيث يُبجل انتصارات الإنسان وتمجيد الحياة الدنيوية. ففنانون بارزون – مثل ليوناردو دا فينشي وميكل أنغلو – قدموا أعمالهم في رسم الجسد البشري، اعتبروه رمزًا للقوة المستمرة، مما يعكس رغبة الغرب في خلق إرث يتجاوز الزمن. ويظهر اهتمامهم بتطوير تقنيات الرسم الواقعية، التي تهدف إلى التقاط الواقع وتجسيده في لوحات فنية، ليكونوا شهودًا على تلك اللحظات عبر العصور.

الدين ورؤية المستقبل

تلعب المعتقدات والديانات دورًا حيويًا في تشكيل آفاق المستقبل الثقافي. وفي الساحة الصوفية، التي تعتبر تيارًا روحيًا داخل الإسلام، نجد مثالًا فريدًا على تأثير البيئة على الخبرة الدينية. تظهر التصوف في مناطق مختلفة، ولكن لها الجذور العميقة في البيئات الصحراوية التي تميز العالم العربي. تُفرض الصحراء، بتضاريسها الشاسعة وظروفها القاسية، تحديات خاصة تُعكسها الممارسات الصوفية من خلال تأكيد فكر الفناء والتخلي عن الدنيويات. وتهدف الممارسات الصوفية مثل التذكير والتسبيح الجماعي إلى تحقيق الوحدة مع إرادة الله، معبّرة عن امتنان عميق للحياة كرحلة روحية تتجاوز الارتباطات الدنيوية.

وتعلم الصوفية كيفية التأقلم مع عدم اليقين والتقلّبات في الحياة. يُسهم البيئة القاحلة والمناظر البسيطة في تنمية روحية تجسد رغبة الفرد في البقاء والاستمرارية.تطوير وجهة نظر تحترم الجمال في الاقتصاد وتعتبر الهدوء مصدرًا للراحة، مما يشجع على تقدير اللحظة الحالية والسعي نحو البحث عن معان أعمق في العوالم الروحية. وبشكل متناقض، أدى ذلك إلى توجيهه نحو الزهد في الحياة الدنيوية وظواهرها المادية.

من جانب آخر، تعتمد العديد من التقاليد الروحية في العالم الغربي على رؤية تفهم الكون ككائن منظم ومحدد بناءً على إرادة إلهية، حيث توجد خطة محددة مسبقًا للمستقبل. وإن هذه المعتقدات – التي تعزز فكرة الخلاص ورؤية كونية ثابتة – تساهم في صياغة وجهة نظر تميل نحو الاستقرار والتحقيق المستمر، كما اورد لين وايت جونيور في مقاله “أصول أزمتنا البيئية”. ووفقًا لوايت، فإن هذا الأسلوب من الفكر دفع إلى استنزاف الموارد الطبيعية بطريقة قد تكون غير مستدامة. وقدمت الرؤى الدينية التي تكرم الإنسان ومنحه القدرة الأخلاقية لاستخدام الطبيعة، ساحة لتطوير سياسات تظهر قلة الوعي بالآثار البيئية طويلة المدى.

الحياة الحضرية كعنصر ثقافي

عند كشف ألغاز العمارة والتخطيط الحضري، يبرز الحاجة الملحة لفهم عميق للمكونات الفضائية التي تشكل شبكة أي مدينة أو هيكل. يوضح الدكتور وليد أحمد السيد في مقاله “السالب والموجب في التصميم الحضري بين العرب والغرب” أهمية هذا التحليل في الكشف عن الفروقات الأساسية بين الفضاءات الفراغية في العمارة التقليدية العربية والعمارة الحديثة الغربية، حيث يبين أن هذه الفضاءات، المعروفة باسم الفراغات السالبة والموجبة، تحمل أبعادًا ثقافية واجتماعية عميقة تتجلى بوضوح في تخطيطها واستخدامها. الحيز الفراغي الموجب يتألف من الكتل المعمارية مثل الجدران والحواجز التي تمثل فاصل بين الداخل والخارج وتميز بين العام والخاص.

في العمارة العربية، يتمثل هذا الحيز بطريقة تعكس الطبيعية والتنظيم، حيث تتداخل الشوارع والأزقة بسلاسة تامة من الواسع إلى الضيق. ويعكس هذا الترتيب بنية المجتمعات الاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية التي تعتبر الخصوصية والانتماء عناصر أساسية.

تحليل الأنظمة العمرانية يفوق مجرد الملاحظة السطحية على توزيع الفضاءات، مما يشمل الدور الذي تلعبه هذه الفضاءات في التأثير على التفاعلات اليومية وتشكيل الهوية الثقافية. بالاستكشاف في هذه الديناميكيات، يمكننا رؤية كيف تؤثر العمارة والتخطيط الحضري ليس فقط في شكل المدن، ولكن أيضًا في نسيج حياة سكانها، مع مراعاة الفروق الثقافية والاجتماعية العميقة بين المجتمعات.

يوضح الدكتور خالد عزب في كتابه “فلسفة التصميم الحضري” أن التخطيط الحضري للمدن يستند على مبادئ فلسفية رئيسية وهي: حديث النبي “لا ضرر ولا ضرار” والآية القرآنية “اصبر كما صبر أولو الأنقاب” حيث تعتبر هذه المبادئ أساسية في تنظيم الفضاءات العامة والمشتركة في الحياة الحضرية، مما يمكن من تكيفها وتفاعلها المستمر مع المتغيرات الزمنية والمكانية.

من جهة أخرى، تظهر المدن الغربية نهجًا تصميميًا يُركز على الفضاءات الفراغية السالبة، حيث تكون الشوارع والميادين في مكانة مركزية، في غالب الأحيان تكون مستقيمة ومنظمة بشكل يبدو مفروضًا على الكتل المعمارية المحيطة. يعكس هذا النهج قيم التوضيح والتخطيط والتنظيم، التي تشكل الأساس في الفكر الغربي الحديث. على سبيل المثال، تم تصميم مدينة باريس وفقًا لتصميم لجورج أوجست هوسمان، ويقوم بتحديد شوارعها وبوليفاردها بطريقة تسبق الاستيطان وتحدد أساليب الحياة المستقبلية.

أن تحليل الأنظمة العمرانية لا يقتصر على الملاحظة السطحية لتوزيع الفضاءات، بل يمتد ليشمل المساهمة التي تلعبها تلك الفضاءات في التأثير على التفاعلات اليومية وتشكيل الهوية الثقافية. ومن خلال هذا الاستكشاف، يمكننا مشاهدة كيف تؤثر العمارة والتخطيط العمراني لا يساهم فقط في تغيير شكل المدن، بل في تأثير نسيج الحياة لسكانها، باعتبار كون الفروق الثقافية والاجتماعية العميقة بين مختلف المجتمعات.

رؤى متنوعة للمستقبل

باختلافنا، نرسم جسورًا حضارية تتصل بالحياة الفنية المتنوعة، والرواية الأدبية، والمعتقدات الدينية، والتخطيط الحضري للمدن، نجد تباينًا في رؤى المستقبل بين الثقافة العربية والغربية. تنقلب الصحاري المتحولة والمناظر الخضراء الثابتة تأثيرًا كبيرًا على تلك الرؤى الثقافية، مما يترك تأثيرًا دائمًا على الإرث الفني، والأدبي، والديني، والمعماري. تدعونا هذه الرؤى المتباينة، المنبثقة من بيئاتها المتباينة، إلى التأمل في مجموعة واسعة من طموحات الإنسان، وهو نظرة تلخص أفقًا متنوعًا لتطلعات مستقبلية جديدة.تكتشف بعد.

وعلى صعيد التنوع البيئي بين المنطقتين العربية والغربية، تبرز الاختلافات الملحوظة في ردود أفعالهما الحضارية. في الساحة العربية، حيث تتميز الأراضي بجفافها وندرة المساحات الخضراء، تظهر فلسفة للوجود جذورها في الاندماج بدلاً من الثبات، تفضل البرية الشاسعة على حدود الحضارة. وأفق الصحارى الشاسعة يخدم ليس فقط كلوحات للتأمل الفلكلوري بل أيضًا يلعب دورًا في تشكيل الهوية العربية، هوية تتوق لتجسيد الشجاعة، والكرم، والشهامة، والشرف.

يزرع هذا التباين البيئي قيمًا ثقافية متبوعة في كل منهما: في العالم العربي، روح مرنة مثل الصحراء، تتقبل التغيّر. وفي الغرب، روح دائمة مثل التلال الصامدة، تسعى للإبقاء على الأثر.

ومن جهة أخرى، نرى كيف قد طوّر الغرب عبر العصور أدوات تمكّنه من استغلال موارده وتحسين جودة الحياة، مما أدى إلى حياة أكثر تقدمًا وتعقيدًا. ومع ذلك، نرى كيف أن التمسّك الغربي بقراءته للعالم “كنص ثابت” قد جرّه إلى صدام مع الطبيعة، مما يضطرّه اليوم إلى إعادة النظر في نهجه تجاه فهم الكون.

ولقد زرع هذا التباين البيئي قيمًا ثقافية مميزة في كل منهما: في العالم العربي، روح مرنة مثل الصحراء، تتقبل التغيّر. وفي الغرب، روح دائمة مثل التلال الصامدة، تسعى للإبقاء على الأثر. وأثناء وقوفنا عند مفترق الطرق هذا للرؤى الزمنية، نُدعى للتفكير بشكل عميق في كيفية تكوين بيئاتنا لرؤيتنا للمستقبل، وأي إرث نختار تركه وراءنا، وكيف يمكن لهذا التباين في الرؤية أن يُثري استدامة حضارتينا.


  • باحث في مجالات الهندسة المعمارية *
المصدر : الجزيرة



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.