حبيبتي المحبة.. هل يُصلح العطار ما أفسده الأسد؟

Photo of author

By العربية الآن



حبيبتي المحبة.. هل يُصلح العطار ما أفسده الأسد؟

جمع بين الراحل عصام العطار وزوجته بنان الطنطاوي
جمع بين الراحل عصام العطار وزوجته بنان الطنطاوي (الجزيرة)
حبيبتي المحبة.. يبدو أن هذه المرة، لم يُكذب تلك الشخصية الواضحة في نظام بشار الأسد وهو يُثني على قتلك في تلك اللحظة السوداء البعيدة في تلك المدينة الصغيرة، وهي الحدث الذي يحب الكثيرون تسميته بـ “الهفوة”.

سأله حاكم عربي بدهشة حول ما حدث، وأشار أنه يفهم أنهم يعملون على قتل عصام العطار، لكن إذا كانوا يُقتلون زوجته بنان، ذلك لا يُفهم.

لم يتردد مسؤول “الهوية والانتماء العربي والبعث العربي” في أن يرد قائلا إنهم بقتلك يقتلوني معك، حتى لو لم تتداخل دماؤنا في تلك الشقة الجميلة التي شهدت أيام حبنا وسعادتنا مع أطفالنا.

نعم، لم يتجنبالمجرم البليغ وهو ينطق: “لا نحن لم نقم بقتل عصام العطار كما نشتهي، بل إنما نصلنا بتصفيته، قطعنا أطرافه بنان كلتا يديه ورجليه، ولن يكون بإمكانه بعد ذلك التحرك كالسابق، وأن يشتغل كما كان يفعل!

حدث ذلك في 17 مارس/آذار 1981، كنت حينها -كما تدركين- في تلك المصحة الطبية لتلقي العلاج، وكان الأبناء في مدرستهم، وأنت في المنزل تحتضنينه بمودة وحنان واهتمام ورعاية كما عهدت.

بشكل مفاجئ، سمعتِ الطرق على الباب، وصوت الجارة الألمانية يستنجد بك، فامتثلت لفتحه لتفاجأ بالجارة المضطربة وظلام كامن يرافقها.

هل حقا تفاجأت؟ أعلم جيدا وأنت تعلمين أن الإجابة سلبية، وتظهرين الآن ابتسامة مؤمنة بجوابي.

كنت تدركين أن نظام “المقاومة والعروبة والقومية والبعث الاشتراكي” يسلك خطتنا، ويهددنا دائما بالقتل حيثما كنا، وكنت تسبقينني للسيارة لتشغيل محركها حتى لو سلكت أيديهم طريقهم لها قبلنا وزرعت قنبلة تُنفجر فيك فترحلين شهيدة إلى ربك، وتتركينني بمفرداتي.

عندما أصبت بالشلل عام 1968 -بعد رحلة شاقة مؤلمة مع رطوبة السجون وأوبئتها- نادتني مرة أخرى بصوتها الدافئ المليء بالحنان “لا تحزن يا عصام: لو فشلت في السير، سأمشي مقامك، ولو فشلت في الكتابة سأكتب بأيدينا”

تضيقني العبارات

والآن يندهش كثيرون من عشقي الجامح لك، ويتعجبون وهم يرصدون الدموع تتسلل كلما ذكرتك على هذه الشاشة أو تلك!

لا يفهمون كيف وقفتِ إلى جانبي وأنا في زنازين السجون، تشددين أزري لآمنع الاستسلام والإنكسار وأنت تقولين: “يا عصام، أنا والأولاد بخير وسلام لذا لا تهتم بنا، كن صامدا كما تعرفناك دائما ولا تظهر لهؤلاء الفاجرين سوى القوة والصلابة والتفوق للحق على الباطل”.

وحتى عندما أصبت بالشلل عام 1968 -بعد رحلة شاقة مؤلمة مع رطوبة السجون وأوبئتها- نادتني مرة أخرى بصوتها الدافئ المليء بالحنان “لا تحزن يا عصام: لو فشلت في السير، سأمشي مقامك، ولو فشلت في الكتابة سأكتب بأيدينا، اتبع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي صاغته وآمنت به، فنحن معك دائما نتناول معك فيما إذا اضطررنا الخبز الجاف، وننام معك تحت خيمة من الخيام”.

  • ونظمت حينها قصائد ربما تروق لك، فقلت:

يَا رَبِّ إِنّي فِي سَبِيلِكَ مُبْحِرٌ .. وَوَهى الشِّراعُ وَدَمْدَمَ الإِعْصَارُ

والجِسمُ كَلَّ عن الْحِراكِ وخَانَنِي .. والْبَحْرُ حَوْلي مَارِدٌ جَبَّارُ

عَزَّ الْمُعينُ فلاَ مُعِينَ سِواكَ لي .. فَالْطُفْ بِما تَجْري بِهِ الأَقْدَارُ

إِمَّا كَتَبْتَ لِيَ الْحَيَاةَ أَوِ الرَّدَى .. فَأَنَا الَّذي أخْتَارُ مَا تَخْتَارُ

رصاصة واحدة في الجبين كانت كافية لو كانت الهدف القتل فقط، ولكنهم انتخبوا أن تكون خمس رصاصات، ركلتان منها في الجبين!

لم يكن يكن خطأ

نعم، قتلك لم يكن خطأ حبيبتي بنان، فمنذ رحيلك أصبحتي شهيدة فقيرة، فقدت هذا الصوت الذي كان يقوي ثقتي، وظللت أتمسك بذكرياتنا سويا أعض عليها بألاياتي، فلا تفارقني ولا أفارقها، وعشت بها وعاشت معي.

وتلك الدموع التي لطالما انهمرت أمام الجميع هي شفيعي إليك إن كنت تعتقدين وأنت في العالم الآخر هناك أنني نسيتك، أو مللت من تذكرك.

خمس رصاصات كانت علامة على الكراهية والحقد والتآمر للشر المطلق، فجاء البعض مدعيا أن قتل تلك الخفافيش لك كان مجرد خطأ في الحساب، فطالما أنني لم أكن حاضرا بالمنزل، كان الأمر عليهم بالمغادرة، لأن قتلك لا يجلب ولا يرد!

إلا أن القتلة كانوا يعلمون أنك عنوان لي ولقلبي وعقلي وقلمي، وأنني بعد موتك لن أعود كسابق حالي- وحاشا أن أتراجع للوراء بعد موتك- لذلك سعوا لتوظيف كل تلك الطلقات لإنهاء رحلتك في هذه الأرض الرديئة.

كانت ألمانيا الغربية -كما كانت تشتهر في ذلك الزمان- تسعى هي والأنظمة الغربية الحليفة لكي أصبح جزءا من خيوطها تمضي به في اتجاه يخدم مصالحها في تراب سوريا العزيزة.

حرستنا ولكن

قبل تنفيذ هذه الجريمة وهذا الاعتداء، كانت أجهزة الشرطة الألمانية تشدد تأمين بيتنا، بل في كل الحي الذي كنا نسكنه: هنا دورية من رجال الشرطة يراقبون المكان، ويفتشون هويات السكان، وهناك سيارة مصفحة تحمل ثلاثة جنود مسلحين بالرشاشات، وتواصل بين مراكز الشرطة لتأميني في جميع مدن ألمانيا التي قدمت إليها.

تخفي الشرطة المشددة كانت ذات فائدة علينا بلا طلب مني، وبلا توجيه مني.

كانت لديهم أخبار بتهديد حقي بالقتل، وتبين لهم وجود مؤامرات على حياتي.

أنا وعائلتي، ثم لم يمر وقت طويل حتى فُرضت علينا تلك الحراسة الصارمة لضمان حمايتنا.

قد تعجبنا في البداية من هذا الإجراء الأمني الصارم الذي فرضه علينا الألمان، ولكن كنا ندرك أن ذلك يخدم مصالحهم بالتعاون مع هذا العبد الضعيف.

كانت ألمانيا الغربية – باسمها القديم – تسعى هي وحلفاؤها الغربيين لإيجاد موالٍ في سوريا لصالحها.

كما سعوا مع الآخرين، سعوا معي، وكان الغرب دائمًا يسعى للسيطرة على الوضع لحماية مصالحهم في يوم من الأيام.

اعتقدوا أنني يمكنني المساعدة في تغيير الوضع السياسي في سوريا، كوني المعارض الذي لا يمكنه العودة إلى بلده مجدداً، ولذلك كان من الضروري حمايتي حتى أرد لهم الجميل في الوقت الذي يحددهم.

قد وجدوا دلائل تثبت محاولات عدة لاغتيالي وعائلتي، ورغم ذلك، قرروا رفع الحراسة لرفضي “التنازل عن المبادئ”.

تفاوضات

كما تعلمين نحنا، بدأت تفاوضات عديدة تظهر خلال تلك الفترة، من داخل الوطن العربي والغربي، لكي أقبل التنازل أو التوصل إلى حل وسط، إلا أنني لم أكن أرغب يومًا في التوصل إلى التنازل!

لذلك، عندما فشلوا معي، وبذلوا كل ما في وسعهم، لم نصدم عندما رأينا قرارًا يحظرني عن التحدث والكتابة في السياسة، أو المشاركة السياسية المباشرة أو غير المباشر.

الأهم من ذلك، أصدروا قرار برفع الحراسة عني وعن عائلتي! وسرعان ما انسحبت سيارات الشرطة والمركبات المدرعة والقوات المسلحة، فعلمت أن قرارهم كان كأنه حُكم بإعدامنا!

لقد وجدوا أدلة على عدة محاولات لاغتيالي وعائلتي، وعلى الرغم من ذلك، اتخذوا قرارًا برفع الحراسة فقط لرفضي “التنازل عن المبادئ”.

إطلاق الرصاص إذن

لم يكن من المفاجئ أن لا تظهري الخوف أو التردد، بل بقيتي كما أنتِ، صامدة مثل جبال سوريا الأصيلة.

هل نسيتِ كيف كنتِ تركضين نحو السيارة خوفًا من انفجارها وأنتِ بداخلها في حال زرعوا بها قنبلة لاغتيالي؟

في النهاية، لم تكن هناك قنبلة عزيزتي بنان، بل كانت هناك خمس رصاصات، وقد استقبلتها أنتِ بدلاً منا: ربما كانت هناك اثنتان لي، وواحدة لك، واثنتان لأطفالنا.. كانوا يحرصون على توزيع الظلم بشكل عادل، وكنت كريمة في تحملها جميعًا بدلاً من حبيبك وأطفالي.

أؤكد مرة أخرى عزيزتي بنان: لم يكن الهدف القتل فقط، وإلّا كانت رصاصة واحدة في الجبين تكفي.

لو كنتِ تدركين ما حدث لي بعد فقدانك..

اضطررت لتغيير إقامتي بشكل دوري، وأستضيفني البيوت والمنازل في مدن وبلدات ألمانيا، وأنا في الحالة الصحية الصعبة التي تركتني عليها، ولكني لم أقترب أبدًا من “التوسط”، وبقيت، بفضل الله، ثابتًا على الموقف دون تغيير أو انحراف.

جعلتني دماءك المقدسة أكثر اتصالًا بالمبادئ، وأضافت حجة أخرى قوية تثبتني على هذا المسار الطويل والصعب.

ظلت على شاكلة قول الشاعر سميح القاسم “مرفوع الهامة أمشي، في كفي زيتونة وعلى كتفي نعشي”، واستمرت، وكلماتك ترن في آذاني “لا تحزن يا عصام: إن عجزت عن السير، سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا”.

خلال تلك الرحلة، فقدت – أو تم سرقتها مني – بعض من أغلى الذكريات التي تركتها لي، وهي الرسائل التي كنتِ تكتبين لي ونحن نعيش تحت سقف واحد.

كنتِ تقرئين كتاب الله في الخلافات التي نختلف فيها، وتعودين وتكتبين رسالة تعبرين فيها عن نعمة الله علينا، وتحمدين الله عليها، ثم تعرضين بأسلوبك اللطيف والمحب عن وجهة نظرك التي غالبًا ما كنت أتفق معها، ليس فقط لأنني أحبك، ولكن لأنك كنت ذكية قادرة على اتخاذ الرأي الصحيح.

وعندما نختلف في قضية تمس الآخرين، نعود للنقاش بحضور الله.

نعم حبيبتي بنان، كما رفضت التنازل عن المبادئ والالتزام بمنطق “التوسط”، وقفت ضد هذا المنطق من اللحظة الأولى.

الانتقام والظلم والتفرقة بسبب رغبتي في أن تستمتع جميع السوريين بسيادة قيم العدالة والحرية والكرامة والوحدة.

انتقام لا

بعد وفاتك يا بنان، وصلتني تعاطفا صادقا من مختلف مناطق ألمانيا والدول العربية والغربية، واشتد فيّ خوف من تبني أحد منهم منطق الردّ بالعنف، ونحن رجال قيم ومثل وتضحيات.

لذلك، قمت بإصدار بيان -يا بنان- حثت فيه كل المحبين والمتعاطفين على عدم اللجوء إلى أي أعمال انتقامية، لأنني أريد للجميع الاستمتاع بنعمة العدالة والحرية والسلام.

وعندما سألني صحفيون غربيون “هل تعتبر أي فئة حاكمة في سوريا مسؤولة عن وفاة زوجتك؟”، رفضت ذلك بسرعة وأكدت: الله تعالى يقول في كتابه الكريم “ولا تزر وازرة وزرى أخرى”. وأشرت: سأدافع عن كل سوري بريء بغض النظر عن فئته أو معتقداته تمامًا كما أفعل مع أبنائي.

نعم يا بنان العزيزة، كما رفضت التنازل عن تبعيتي ومواقفي المبدئية، واقف منذ اللحظة الأولى ضد منطق الانتقام والظلم والتفرقة بسبب رغبتي في أن يستمتع جميع السوريين بسيادة قيم العدالة والحرية والكرامة والوحدة.

وكنت سعيدًا عندما أدليت بتصريح لوكالة الأنباء الألمانية بعد وفاتك حيث صرحت: “أنا معارض للنظام الديكتاتوري في سوريا، وأعارض خدمة أجندات أنظمة عربية، وأقف ضد التبعية للاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي، وأعارض في نفس الوقت التبعية للولايات المتحدة الأمريكية وللغرب”.

كنت محاصرًا، لكن المبادئ وذكراك كانتا نافذتي لتحطيم هذه الحصارات، حتى بعدما حصلت على الجنسية الألمانية وأصبح بإمكاني التنقل بحرية أكبر والسفر إلى أي مكان أُريد. كانت تلك النافذة ضرورية لأتنفس وأحيا.

امد يديك

على فكرة، آمل أن كنتِ سعيدة ـوأنت في ذلك العالم- بالقصيدة التي ألفتها قلبي لأعبر من خلالها عن مشاعري المتدفقة، وأنا أرى الأحباب يرافقون نعشك الكريم إلى محل رحمة الرب.. واسمحي لي أن أذكر بعض أبياتها الموجوعة حتى تدركين مدى حبي:

بانانُ يا عنصر الإيمان الدائم .. ما زال جرحك في قلبي ينزف دما

بانانُ يا رمز الصدق الرائع .. ونموذج الفداء والنبل والكرم

بانانُ يا رفيق أيامي المنصرمة .. وليس يومك في قلبي مرسخا

ويا شريكة دربي والدنا ظلم .. نحرق طريق الهدى في حالة الظلام

ويا ثبات قلبي في الاضطرابات .. ودواء الجرح في الروح والجسم

ويا حمايتي عند الخطر .. ويا ثقل اليد ويا سيفي ويا قلمي

عاشرنا تائهين عن الأهل والوطن .. من معارك نضال النور والظلام

المكيدة ترصدنا في كل منعطف .. والموت يرصدنا في كل مأزق

حتى سقطتِ على طريق الجهاد، وقد عز النصير دون شكوى أو ندم

مقتولة برصاص الغدر، خالدة .. في مسامع الدهر، ترتل بكل لسان

وبوحدي على الطريق المعتاد، وقد غاب الرفيق، بجرح غير ملتئم

وعلى ذكر الشعر، فأنتِ تعرفين حبي الكبير لعنترة، والمتنبي، وكنتُ أود أن أحدثك عن شجاعة الفارس المقدام العاشق، وعن حكمة وعبقرية صاحب الخيل والليل والبيداء والقرطاس والقلم، لكن يا يدي ويا سيفي ويا قلمي، عز النصير، وجميع الفؤاد، وضعف العظام، وارتفاع شيب الرأس منذ رحيلكِ، وحان الوقت لألحق بك..

“دون شكوى ودون ندم” أنا تعبت من الانتظار، ومن مشاهدة ما يحدث في سوريا، ومع الإخوة، ومع الأصدقاء، حيث أرى إلا المهجّرين والنازحين والقتلى..

“دون شكوى ودون ندم” أصبحتُ متعبًا من المأسي والانقسامات والخلافات، ومن سماع أخبار ملايين النازحين واللاجئين السوريين، ومن شهدائل أطفال ونساء سوريا المظلومة داخل مخيّمات الفاجعة في كل البلدان المجاورة، وتعبت من خذلان القريب والبعيد لنا جميعًا.

لم أدرك تعب الحياة وعمري لامس القرن المنصرم، ولكن القلب لم يعد قادرًا على تحمل هذه التحديات جميعًا، وها أنا بين ضيق الجدران أقول بكل صباح هذا يوم اللقاء الذي سألتقي فيه الأحباب وأعود إلى عنقك بعد فترة طويلة من الغيب.

امد يديك يا بنان، لأن الوقت قد حان لنواصل رحلتنا هناك، حيث لا أستطيع الحزن، ولا الانكسار، ولا الذل، ولا المأساة، وقل لي ما فاتني، وسأخبرك بقصة انفصالي منذ رحيلك وتركك لي وحيدة.

آراء المذكورة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر قناة الجزيرة.



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.