حظر الجزيرة.. العنوان قطر والاحتلال مأزوم
وقد صدق في إسرائيل وصف رابطة الصحافة الأجنبية بأنها تنضم بقرارها هذا إلى “نادٍ مشكوك فيه من الحكومات الاستبدادية”، فيما وصف المقرّر الأممي المعني بالحق في السكن القرار بـ “رد فعل نظام مذعور يخاف من الحرية”.
وبالفعل، فإن قرار حكومة الاحتلال جاء بتوصية من جهاز أمني وهو “الشاباك”؛ لتبرير قرار سياسي بامتياز، تم التمهيد له بحملة من وزراء اليمين المتشدد، ولا يتعلق أبدًا بمخالفات ارتكبها مراسلو القناة. كما تم تبييت النية له من خلال إقرار الكنيست في 1 أبريل/ نيسان الماضي بالقراءات الثلاث، مشروعَ قانون: “منع المسّ بأمن الدولة من قبل هيئة بث أجنبية” والذي يسمح بإغلاق أية قناة بادعاء أنها “تضرّ بأمن الدولة” وبتوصية من أي جهاز أمني، وأطلق عليه “قانون الجزيرة”!
ويأتي هذا القرار استكمالًا لمحاولة الاحتلال طمس الصورة الواردة من غزة، بعد أن منع كل وسائل الإعلام الأجنبية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول من التغطية في غزة على اعتبار أنها منطقة عسكرية مغلقة.
التوقيت والدلالة
غير أنَّ توقيت القرار يعطي مؤشرًا واضحًا على دلالاته، فقد جاء في سياق حملة من التحريض الإسرائيلي على قطر ودورها في الوساطة، بدءًا من التسريب الذي تعمد نتنياهو نشره في 25 يناير/كانون الثاني، ووصف فيه في لقاء مع أهالي الأسرى، قطر بأنها “إشكالية” مثلها مثل الأمم المتحدة، وأنها لا تضغط على حماس من خلال وساطتها، بل إنها تمولها، معبرًا عن “غضبه الشديد” من قرار واشنطن تجديد اتفاق يبقي على الوجود العسكري الأميركي في الدوحة مدة عشر سنوات إضافية!
ثم شنّت حكومة نتنياهو حملة تحريض على قطر ضمن أعضاء الكونغرس الأميركي، حيث دعا النائب الديمقراطي الأميركي ستيني هوير في 16 أبريل/ نيسان الولايات المتحدة إلى مراجعة علاقاتها مع قطر، وانتقدها لعدم ممارسة ضغوط كافية على حماس للتوصل إلى إطلاق سراح الرهائن!
ووصل الأمر إلى أن تنشر صحيفة جيروزاليم بوست العبرية تقريرًا بعنوان: “من يقف وراء الاحتجاجات المعادية للسامية في الولايات المتحدة؟” بتاريخ 30/4/2024، زعمت فيه أن هناك “صلة مثيرة للقلق بالتمويل القطري، والأيديولوجيات المتطرفة للاحتجاجات المعادية للسامية في الولايات المتحدة الأميركية”!
ودفع هذا التحريض قطر للإعلان أنها بصدد مراجعة دورها في الوساطة، في محاولة لوقف هذه الاتهامات، والتحلل من الضغوط، ووضع الإدارة الأميركية التي تثق بنزاهة الدور القطري أمام مسؤولياتها لوقف هذا التحريض.
والحقيقة أن التحريض الإسرائيلي على قطر بدأ يشتدّ مع فشل الاحتلال في دفع حماس للموافقة على صفقة تبادل تلبّي الشروط الإسرائيلية، منذ وثيقة باريس التي تم التوصل لها نهاية يناير/كانون الثاني.
ويأتي ذلك أصلًا في سياق الأزمة التي يعيشها الكيان، نتيجة فشله في تحقيق الأهداف التي حدّدها لعدوانه على غزة متمثلة في القضاء على حركة حماس وتحرير الأسرى. فبعد أكثر من 7 أشهر على العدوان، عادت حماس لشنّ هجمات مركزة على قواته في الشمال، وفي مدينة غزة، وفي خان يونس، فضلًا عن استمرارها بالاحتفاظ بكامل قوتها في مدينة رفح، كما أنها استمرت بالتمسك بمطالبها بوقف الحرب والانسحاب الإسرائيلي من غزة، والسماح بالعودة غير المشروطة للاجئين إلى شمال غزة، وإنجاز صفقة تبادل أسرى مشرّفة، وإغاثة وإيواء الفلسطينيين.
كما يأتي ذلك في خضم أزمة العلاقة مع حكومة بايدن بشأن المرونة في صفقة الأسرى، وفي التعامل مع السلطة الفلسطينية وتصوّر ما بعد الحرب، واجتياح رفح.
كما يتزامن مع انفضاض الدعم الغربي الرسمي للكيان، وتلويح العديد من الدول الغربية التي دعمت العدوان في البداية، بوقف إمداد الكيان بالسلاح ما لم يوقف الحرب على غزة، ومحاكمته غير المسبوقة في محكمة العدل الدولية، واحتمال أن يصبح قادته – وعلى رأسهم نتنياهو ووزير دفاعه ورئيس الأركان – مطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، فضلًا عن انهيار صورة إسرائيل في الإعلام الغربي، ولدى فئة الشباب، واشتعال المظاهرات المناهضة للاحتلال في الجامعات الأميركية والغربية.
دور الجزيرة
ولا شكّ أن الجزيرة بحضورها القوي، وتواجد مراسليها في غزة والضفة، تمكّنت من نقل الصورة الحقيقية للوضع التي يحاول الاحتلال من خلال ناطقه العسكري وتصريحات قادته المضللة حتى للجمهور الإسرائيلي، طمسها، فما حققه الاحتلال هو ارتكاب المجازر واجتياح المستشفيات وهدم المدارس والمنازل على رؤوس ساكنيها.
بل إن الجزيرة تمكنت من خلال حيازتها ثقة المقاومة وثقة السكان الفلسطينيين أن تحصل على فيديوهات مسجلة وبثها، والتي شكلت فضيحة لقوات الاحتلال، مثل فيديو استهداف مدنيين عزل بطائرة مسيرة (21/3/2024)، وقتل جنود الاحتلال مدنيين أثناء محاولتهم العودة لشمال غزة من خلال شارع الرشيد، ومن ثم دفن جثث الشهداء بالرمال وبين القمامة (27/3/2024)، فضلًا عن نشرها مشاهد المجازر التي ارتكبها الاحتلال في اجتياحه الأول ثم الثاني، مستشفى الشفاء، وصور المقابر الجماعية التي خلفها الاحتلال وراءه بعد اجتياحه مستشفى كمال عدوان بخان يونس!
وربما كان أكثر ما يغيظ الاحتلال أن الجزيرة دأبت على نشر فيديوهات كتائب القسام وبقية فصائل المقاومة كاملة، والتي تستهدف فيها دبابات الاحتلال وآلياته بقذائف الياسين، ونصب الكمائن المميتة لجنود الاحتلال، وقنصهم ببندقية الغول. هذا فضلًا عن نشر فيديوهات القسام التي تتحدث عن مصير الأسرى لديها وتعرضهم للقتل؛ بسبب قصف قوات الاحتلال، وهو الأمر الذي أثار ويثير أهالي الأسرى ويدفعهم لتصعيد احتجاجاتهم المطالبة بعقد صفقة تبادل أسرى مع حماس!
كما شكلت هذه التغطية مادة دسمة لإثارة الاحتجاجات في العالم العربي والغربي، فضلًا عن أنها حفزت جنوب أفريقيا لرفع دعوى الإبادة الجماعية ضد الاحتلال في محكمة العدل الدولية.
وفي الحقيقة، أن الجزيرة كانت بذلك تؤدي دورها المطلوب منها وبكل مهنية في إطار المسؤولية الأخلاقية والوطنية التي تحتم عليها أن تكشف الحقائق كما هي، ولذلك دفعت أثمانًا من أرواح صحفييها، كما سبق أن فعلت ودفعت أثمانًا لذلك في العراق وأفغانستان. ولكنها بهذا الدور كسرت الرواية الإسرائيلية وناقضتها وأظهرت كذبها وفضحتها، ما كان له عظيم الأثر- جنبًا إلى جنب مع وسائل التواصل الاجتماعي- في تجييش الاحتجاجات ضد الاحتلال في كل مكان بالكرة الأرضية.
“القرار الذي اتخذ في الحكومة بالإجماع وكأن الأمر يتعلق بالعدو الأكثر خطورة على إسرائيل، ظهر كنتيجة للإحباط وتصفية الحساب مع قطر. ولكن إسهامه الحقيقي يكاد يكون صفرا في المعركة حول “الدعاية”، التي هي فشل شامل آخر للحكومة”
فاعلية القرار
ولأن الرواية الصهيونية بدأت بالأفول بسبب هذا، فقد لجأ الاحتلال لإجراءات عقابية بحق القناة، إلا أن هذا القرار لن يؤثر على قناة الجزيرة بشكل كبير، فهو يقتصر على وقف عملها في الأراضي المحتلة عام 48، فيما لا تمتلك إسرائيل صلاحية تطبيقه على الضفة والقطاع، وإن كانت تستطيع كسلطات احتلال أن تعتقل صحفيي الجزيرة بحكم تواجدها في هذه المناطق.
غير أن هذا لن يمنع الصحفيين من العمل في ظروف ليست مستجدة عليهم، طالما تعودوا على التضييق والملاحقة، بل والقتل أيضًا كما جرى مع الصحفية شيرين أبو عاقلة.
وستستمر الجزيرة في أداء مهمتها الصحفية، وستنشر فيديوهات المقاومة وبياناتها وتصريحات قادتها، وستظلّ صورة “أبو عبيدة” التي تغيظ المحتلين حاضرة على شاشاتها، وذلك ببساطة؛ لأن المقاومة مستمرة، والشعب الفلسطيني صامد، والجزيرة تنقل هذا الواقع وتعكسه من خلال مرآتها الصادقة.
ولن يجنِي الاحتلال من هذا القرار نتائج عملية في محاصرة الرواية الحقيقية، بل إنه بهذا الإجراء يكرّس صورته القمعية والكاتمة للحريات على عكس ما يحاول إظهار نفسه كواحة ديمقراطية وسط غابة من الدكتاتوريات.
وسيستمر الاحتلال في تهشيم ما تبقى له من مصداقية، وحصد المزيد من الإدانات العالمية، إذ إنه لن يتمكن من محاصرة الصور الآتية من غزة والضفة والتي تكشف إجرامه وساديّته.
ولذلك ستستمر الاحتجاجات في العالم، وعلى الأخص في الجامعات ضد عدوانه الفاشي الهمجي على غزة، وذلك على الرغم من استمرار تحريضه عليها ووصفها بالمعادية للسامية، فضلًا عن خسارته الحقيقية على أرض المعركة أمام صمود المقاومة وتحدّي الشعب الفلسطيني.
ويكفي هنا إيراد ما كتبه د. تسفي برئيل الخبير في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة هآرتس العبرية: “القرار الذي اتخذ في الحكومة بالإجماع وكأن الأمر يتعلق بالعدو الأكثر خطورة الذي يواجه إسرائيل، ظهر كنتيجة للإحباط وتصفية الحساب مع قطر. ولكن إسهامه الحقيقي في المعركة الفاشلة حول “الدعاية”، التي هي فشل شامل آخر للحكومة، يكاد يكون صفرًا”، متسائلًا عن الدواء الذي تملكه الحكومة الإسرائيلية لآلاف الحسابات في فيسبوك وتليغرام والتيك تك، وهي المنافسات الرئيسية للقناة ” حيث توفر معظم المضامين التي تبني صورة إسرائيل في العالم”.
وأضاف: “تصفية الحسابات” مع قطر عبر إغلاق مكاتب “الجزيرة” في إسرائيل لن تغير مكانة قطر في الولايات المتحدة، ولن تؤثر على علاقتها مع حماس. ولكن هذه خطوة يجب أن تقلق جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية، وأي صحفي عاقل لا ينجح في الوصول إلى ميدان القتال في غزة وأن ينشر مباشرة من هناك”.
وختامًا، إذا كان نتنياهو لا يزال يعِد بالنصر الكامل، فإنه لن يحصل عليه على الأرض، وفي نفس الوقت فإنه يخسر معركة السردية، ومعركة حقوق الإنسان، ويواجه المحاكمات الدولية. بل إنه يخلخل حتى تحالفه مع الإدارة الأميركية التي بدأت تفكر في حظر تصدير بعض أنواع الذخائر له (مع استمرار دعمه في الحرب وتزويده بالأسلحة الفتاكة) في محاولة من هذه الإدارة لحفظ ماء وجهها أمام جمهورها، وتهدئة الاحتجاجات المستمرة التي تهدّد فرص بايدن الانتخابية، ومحاولة الحفاظ على تحالفها الغربي.
رابط المصدر