تذكر.. أنت في قطاع غزة!
جاء الزمن ظهرا من يوم الأحد الثامن والعشرين من أول شهر بالسنة، عائلة متلاصقة حول بعضها ليس لديها سوى أن تستمع للأخبار، شعرنا حينها أننا آمنون وبما أن الأمان نادر في هذه الحرب، سنذهب لنسرق هذه اللحظة الثمينة ونقضيها بتجربة الحياة الطبيعية التي بالتأكيد قد نسيناها.
الصاروخ اللعين لم يكن موجها نحوي، وذهب بعيدا في
وُجِدَ أُخرون على مَر ذاتِه، غامروا بحِياتِهِم عند هبوطه، ولكن فَرِقَتْنا حالتي المُتَكَامِلَة والمُحيَاة، بينما هُم رَحَلُوا أَشْلاَءً مُعَظَّمِينَ بالشهادة للفرَدُوس.
توافدنا جميعًا، أنا وإخوتي بسرعة إلى المَطْبَخ لنُعِدَّ الطَعَام الذي نُرِيدُهُ لِسَدِّ رمقِ مَعِدتِنا وَنَضَعَهُ قَبْلَ أنْ يُغَادِرَنا لَحظَتِنَا الثَمِينَة، وضَعْنَا على مِفْرَشِ الْقَائمَةِ طَعَامَنا المُتَكرَّر يوميًا “العَدِس” الذي بِحَاجَةٍ شَدِيدَةٍ بِحِيثُ لَمْ نُصَلْ لهُ هُنَا في شَمَالِ قِطَاعِ غَزَّة بَعْدَ أَنْ اشْتِدَّ الْحِصَارُ عَلَيْنَا مِنْ كُلِّ شَيءٍ، كَمَا قَالَ وَزِيرُ حَرْبِ الاحْتِلَال “سَنَعَامِلُهُمْ كَالْحَيَوَانات؛ لَا مَاءٌ، لَا طَعَام، لا كَهْرَباء، لَا وَقُود، سَنُرْجِعُهُمْ خَمِسِينَ سَنَةً لِلْوَرَاءِ”.
هه! حَقًا قَدْ جَعَلُوني أَرْجِع أَكْثَرَ مِنْ مِئَةٍ سَنَةٍ وَلَيْسَ خَمِسِينَ فَقَطْ.
قَطَعَتْ لَحْظَةُنَا الثَمِينَةُ في عِيشِ الْحَيَاة، صَارُوخٌ كَانَ قَرِيبًا مِنْ أَنْ يُصمِ آذَانَنَا مِنْ حِدَّتِهِ، وَمِنْ هُنَا قَدْ زَالَ اعْتِقَادِي بأَن خَوْفِي مِن الصَوَارِيخ قَدْ خَفَ عَنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الْحَرْبِ. وَكَمَن غَابَ عَنْ وَعِيِّهِ، لَمْ أَجِدْ نَفْسِي سُوى مَلُتَفّةً حَوْلَ أُمّي مُغْمِضَةَ عَيْنَيْ، أَشْعُرُ بِشَدَّةِ نَبْضَاتِ قَلْبِي الْمُتَسَارِعَةِ بِخَوْف، رَافِعَةُ إِصْبُعَ السَّبَّابَةِ حَتَّى أَنْطَقَ بالشهادة، كالإنسان المُعَدَمِ الْمُغَمِضُ العَيْنَيْنِ وَلَا يُعِي بما يُدَوِّرُ حَوْلَهُ، سَوَى أَنَّ الْمَوْتَ مُحِيطٌ بِهِ مِنْ كُلِّ اتِجَاهٍ.
مَرَّتِ الدَقِيقَةُ بَعْدَ نِزُولِهِ، وَشَهِقَتْ وَعَدتُ لَوْعيَّيْ أَتَحَسَّسُ جِسْدِي، نَعَمْ لَا زِلْتُ كَامِلَةً، لَمْ أَقْطَعْ أَشْلاَءً، فَتَحْتُ عَيْنَيْ كمن يُبْصِرُ لأَوَّلِ مَرّةٍ، مُدْرِكَةً أَنَّني مَا زِلْتُ حَيّةً، وَأَن الصَارُوخَ اللَعِينَ لَمْ يَكُنْ مَوجّهًا نَحْوَي، وَقَدْ ذَهَبَ في طَرِيقِ أُخرون، قَدْ عَاشُوا نَفْسَ شَعُورِي حِين نَزْل، وَلَكِنّ الْفَرْق أَنَّني ما زِلْتُ كَامِلَةً وَعَلَى قَيْد الْحَيَاة، وَهُم رَحَلُوا أَشْلاَءً مُعَظَّمِينَ بالشهادة للفَرَدُوس.
يُريدون مِنَّا أَنْ نَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَالْخَلاَصَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي مِنَ الْمُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ أَرْحَمَ مِنْه!
تَسَاؤلْتُ بِحَرَقَةٍ، عَنْ رَدَّة فِعَلِي لِرُفْعي إِصْبُعِ السَّبَّابَةِ حِينَ سَمَاعي لِأَيِّ صَارُوخ يَنْزِل، وَلَمْ أُصْبِح لَا إِرَادِيًّا أَرْفَعُهُ حِين سَمَاعي أَصْوَات القُصْف. هَلْ هَذَا الفِعْلُ يَعْنِي أَنَّني قَدْ تَقَبَّلَت فِكْرَةَ الْمَوْتِ؟ أَوْ هَل أَنَا أَعِي تَمَامًا أَنَّني قَدْ أَصْبَحت مَرِيضَةً بالخَوْف مِن فِكْرَةِ الْمَوْتِ مُتَقَطِّعَةً لأَشْلاَء؟ هَل هُم هَكَذَا قَدْ أَثْبَتُوا أَنَّهُم قَدْ تَحْكُمُوا فِي حُقُونَا فِي الْحَيَاة؟
يا اللَّه.. هَلُوسَةٌ تَدُورُ فِي مُخْيَلَتِي! كَمْ هُوَ عُمْرِي لِكَيْ أُتَسَاؤَلُ هَكَذَا أَسْئِلَةً، فِي حِينَ أَنَّ الْكَثِيرِينَ مَمَّنْ هُمْ فِي سِنِّي فِي العِشْرِينِيَّات “سِن الشَبَابَ اليافِع” تَدُورُ أَسْئِلَتُهُم الطَّبِيعِيَّةَ عَن الشُغَف، وَالْحُبّ، وَالْحَيَاة، الَّتِي حَقًا قَد جَعَلُونَا نَنْسَاهَا.
لَا أُعْتَقِدُ أَبَدًا أَنَّهُم فَقَطْ قَدْ أَرَادُوا تَدْميرَ بُيُوتِنَا وَمَدِينَتِنَا وَمَعَالِمَهَا، وَشَوَارِعنَا وَذِكْرِيَّاتِنَا، بَلْ هُم يُرِيدُون تَدْمِيرَنَا مِنَ الدَّاخِلِ وَتَعَذِيبُنَا نَفْسِيًّا بالأكْثَر. يُريدون لَنَا أَنْ نَعِيشَ يَائِسِينَ، بَائِسِينَ، مُذَعُورِينَ، خَائِفِينَ مُرَبَكِينَ، لَا نَجِدُ الْهَنَاءَ، وَلَا نَعْرِفُ مَعْنَى الرَاحَة.
يُريدون مِنَّا أَنْ نَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَالْخَلاَصَ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي مِنَ الْمُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ أَرْحَمَ مِنْه!