رواية بمرارة الألم ينقلها لموقع الويب طبيب في مركز طبي بغزة
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>غزة- خلال فترة ممتدة من الزمن، بينما كانت يد العدو تُسفك دماء الأبرياء في منطقة غزة، كانت يد الطبيب هناك تعمل جاهدة على وقف النزيف، واستعادة الحياة، وإصلاح الضرر، وترميم الأجساد المتضررة، إنها يد جراحية ثبتت عزمها في غزة وأبقت رغم أن البعض اضطروا لمغادرتها.
“موقع الجزيرة نت” قصد د. فضل نعيم الجراح في مقر عمله، في مستشفى “المعمداني” الذي أصبح مأوى له خلال فترة الصراع الأخيرة.
خرج الدكتور نعيم من غرفة العمليات مرتديًا الملابس الخضراء للجراح، مُعِبَّرًا عن التضحية والإخلاص في عمله، الذي لم تُزيل قناعته.وجهه الذي يومَى بالاستنزاف يكشف عن إعياءٍ يمتد إلى جسده، يُضاعفه الحسّ الذي سيطر عليه بعد فقدان صديقه الطبيب عدنان البرش الذي أُسر في سجون الاحتلال قبل أيام.
يردّ على عزّائهم الوافدين لتعزيتهم ويُلاحظ نشوة دمع في عينيه يتسائل “كيف تسبب التعذيب في إهلاك جسد صديقي المتين ونحامه الصلبة، وهو الرياضي الذي يمارس السباحة لثلاث ساعات يوميًا، ويُلازم اهتمامًا بغذائه، ولا يعاني من الأمراض أو يشكو من الآلام؟”.
يقوم نعيم بطرد الأفكار التي خبطت في رأسه حول الطريقة التي فيها أغرق المحقق جسد زميله قائلا “أرجو أن تكون رحمة الله كانت تلطفه، ولم يُدرك شيئًا، كما لم تُنم عن إبراهيم -عليه السلام- لم تلتهِب بالنيران”.
إلى رحمة الله د. عدنان البرش شهيد التعذيب بسجون الجيش الاسرائيلي بعد اختطافه من المشفى أثناء تأدية واجبه الانساني بحق جرحى غزة،
تتحمل النقابات الطبية العربية أولاً على عاتقها مسؤولية صمتها الخاجل إزاء قتل واختطاف وإبادة الطواقم الطبية بغزة لسبعة أشهر
pic.com/dpg485Y0Tg— Nour Naim| نُور (@NourNaim88) May 2, 2024
لا حصانة لطبيب!
يحدث نعيم الجزيرة نت عن “أخيه ذو السن الصغير” البرش الذي لم تغمر حياته الطب فقط، بل كان مندفعًا نحو الرياضة والسياسة مما دفعه لاختيار العلوم السياسية كتخصص لدراسته العليا، ويقول “كان عدنان طموحًا جدًا ووطنيًا وباذِلًا لبلده وأبناء شعبه، فقد رفض مناصب إدارية حتى يظل قريبًا من خدمتهم”.
كان رفيق المهنة وصل مشفى الشفاء بـالمعمداني لتنظيم توزيع الجرحى بينهما، فكان التواصل بينهما يوميًا ومُكرّرًا.
لم يكن فقد البرش الضربة الأولى التي كسرت ظهر الجرحى، فاستهداف صديقيه الطبيبين عمر فروانة ومحمد دبور وارتقاؤهما كان قد ألم به من قبل.
ولعل ما كان يؤذيه أكثر ذلك الصمت الرسمي للنقابات والهيئات الطبية التي لم تنطق بكلمة تجاه استهداف الأطباء، خاصة “جريمة قتل عدنان النكراء التي لم يختلف عليها أحد”، قائلا “اختص عدنان في الأردن وبريطانيا وكان يملك زملاء كثر هناك، لماذا لم نسمع احتجاجًا واحدًا، أو نرى وقفة واحدة لأجله!”.
“لم أكن أتوقع أن يكون الأطباء هدفًا، ولم أتخيل يومًا ألا تعطي الحروب حصانة لأحد!” يقول نعيم الذي كان في الحروب السابقة يستعمل سيارته الخاصة للتجوال بدون قيود، لكنه اليوم يرى الطواقم الطبية وسيارات الإسعاف والمستشفيات تحت رماية القذائف الإسرائيلية دون سابق إنذار.
في ساحة المعمداني، الذي شهد سقوط أكثر من 500 شهيد وآلاف جريح كان معظمهم نساء وأطفال نازحين في مجزرة تاريخية، جالت الجزيرة نت مع الدكتور نعيم الذي أُصيب في رأسه عندما انهار عليه سقف غرفة العمليات حيث كان حاضرا.
يراقب بعينه أحداث المأساة، ويعيد “تقاطعات لن تنسى” ويقول: لأول مرة رأيت قول الله “يوم يكون الناس كالفراش المُبثوث”.
عُقد لحم متناثر في أرجاء المكان، بحيرات من الدم تغطي الأرض، ناجون يهربون بدون وجهة ثابتة، صياح ودهشة كأنها يوم القيامة، ووديان من البشر يستغيثون بالأطباء داخل مباني المشفى الذي انقضى عليه الخراب بسبب انقطاع التيار الكهربائي عنه بسبب الغارة.
طب الحروب
وبينما يَسعى الطبيب جاهدًا لتقدم العلاج المناسب لمرضاه، تُعيق الإمكانيات الضئيلة ذلك. حبس الهواء في رئتيه، وهو يستعيد السيّدة التي أمسكت بقدمه وجلست عليها لإنقاذ ابنها الغارق في النهر العميق.
وقفة قاسية تُظهر فيها الأمهات شُفقة تُبَصُّرُه يتوفر، بينما يصنّفه الأطباء بوعيهم أنه فقدانٌ.
يقول نعيم “نصنف الحالات بين الخفيفة والصعبة والميؤوس منها، ننشغل في الحالات الصعبة، ونُحجَم الميؤوس منها، ونؤجل البسيطة”. وهو تصنيف طُرئ على الطاقم الطبي الذي لا يتعدى 10 أشخاص فقط في مستشفى المعمداني، يَهتمّون بعلاج غالبية المصابين في شمال القطاع بعد تدهور مركز الشفاء الطبي.
ويعقّد التصنيف عليهم تأدية البروتوكول الطبي في كثير من الأحيان، فلا وقت لتبديل الملابس بين العمليات، ولا وقت للاهتمام بالتعقيم والإجراءات اليومية للمصابين، ولكن قرار العلاج الجراحي كان يأخذ بحذر، لضمان أساسيات العمل الثلاثة لطب الحروب، وهي إنقاذ الحياة وإنقاذ الطرق والحفاظ على الهيئة.
“سنستمر” كانت الخطوة الضرورية التي اتخذها نعيم مع زَمرة من الأطباء المتبقّين في المعمداني، بعد إزحافمعظمٌ منهم، وما أولى خُطاه للتنفيذ للقرار هي إغلاق الفجوات الإدارية والطبية التي خلفها تركهم، وقد نجحوا فعلًا.
لا يمكن إنكار انهيار النظام الصحي فيما يتعلّق بالخدمات المتقدمة مثل جراحة القلب المفتوحة وجراحة الأعصاب، حيث لا توجد إمكانيات أو كوادر لإجراء هذه العمليات في الوقت الحالي، بينما يسعى الأطباء المتبقون في غزة لترتيب شؤون النظام الصحي وتجديد بعض المؤسسات القائمة لتوفير خدمات الرعاية الثانوية والأولية.
تلك جهود لإحياء ما يُصر جيش الاحتلال جاهدًا على تدميره من خلال هجماته المتواصلة والمُنظَّمة على مؤسسات الرعاية الصحية في القطاع بشكل عام، ومجمع الشفاء الطبي بشكل خاص، “الذي يمثل لأطباء غزة تاريخًا طويلًا ونظامًا واحساسًا، يفوق دوره كونه مُباني تم تدميرها وسيتم إعادة بناؤها”، بحسب نعيم.
جانب البعد والخسارة
ويكمل “المجمع الطبي يجمع تحت سقفه أكثر من 700 طبيب متخصص، ويضم أجهزة متقدمة وإمكانيات فريدة، مما جعله مُصدر إعجاب للزوار، نظرًا لكونه انجازا تحققه غزة على حصارها منذ سنوات”.
أما على الناحية الشخصية، نَأى الدكتور فضل عاطفته، فكانت عودته إلى العائلة في مدينة النصيرات جنوب وادي غزة غير مُرشَّحة، حيث تفوَّقت 21 عامًا من العمل الدؤوب في أروقة المعمداني على قرار بقائه في منصبه.
وعلى الرغم من حيازة نعيم جنسية أجنبية، فإنه لم يفكر في مغادرة غزة، ولم يتصوِّر ذلك في الأصل، على حد تعبيره.
يردّ فكره “كيف يمكن أن تكون غزة وجهة للزوار الطبيين ونفرغ نحن الأطباء منها؟ كيف يمكنني تَركها بالذات وأنا الذي كُنت أشجّع طلاب الطب على البقاء هنا وعدم التخلي عنها أبدًا؟”.
قرار البقاء بَعدَه عن عائلته التي فقد منها 7 شهداء، بما فيهم والدتهم، جاء في إطار هجوم مباشر على الشقة التي كان يقيم فيها شقيقه الطبيب جمال نعيم في مدينة دير البلح وسط القطاع. خبر ورد إليه فجرًا عبر رسالة نصية لم يتمالك قبوله حتى اللحظة -بحسب تعبيره- لعدم قدرته على استيعاب تلك التفاصيل!
يردّ قائِلًا “لقد أصاب إعلان إصابة أمي بي كالصاعقة، كيف يتعرّض جسم الأم لكسور وابنها طبيب عظام غير متواجد بجانبها، كيف ستعيش امرأة البيت في حالة عجز وألم وأنا غير قادر على مواساتها”.
وصلته بعد ساعات خبر رحيلها الذي رأاه نعيم رحمة من الآلام والعذاب، لكنه لم يتمكن من توديعها ودفنها، على الرغم من قرب المسافة بسبب الحاجز الإسرائيلي المقام في الطريق بينهما.
الجوع عبء إضافي
ذلك ربما يكون مُرهقًا جُسديًّا ونفسيًّا في ظل 17 ساعة يقضيها الدكتور نعيم مرتفعًا في غرفة العمليات بتركيز فائق ليخلص من آلام الفلسطينيين، حيث تُعتبر صلواته نواقل للراحة في جُل الأوقات، ووجبة طعام واحدة هي كل ما يستطيع تناوله طوال النهار.
ترك آثار المجاعة على جسد الدكتور الذي فقد 17 كيلوغرامًا من وزنه، فالأمر الذي مرّ على الأطباء كان مُرهقًا. يصف فضل الأوضاع التي كانوا يمرّون بها في تلك الفترة بأنّهم “تناولوا حبوب الشعير وفول الصويا، وتذوّقوا أطعمة غير معتادة عليها، وأكلوا أطباقًا لم يَكونوا يأكلونها من قبل أبدًا”.
أصبح البحث عن الطعام عبئًا إضافيًا عليهم، حيث يتعين على الدكتور نعيم القيام به في أسواق المدينة عسى أن يُخفِف من آثار المجاعة على العاملين في المستشفى.
غير قادرٌ “اليوم اللاحق للحرب” على التفكير فحسب، بل هذا مصدر تخوّف لجراحي العظام الذين يعتبرونه مرحلة جديدة تتطلب جهودا مكثّفة ومتابَعة دقيقة وجراحات ترميمية.
الأمر الذي يتعذّر على الكوادر الحالية السيطرة عليه، مما يستدعي عودة الكوادر المهاجرة وتوفير الأدوية والمواد الاستهلاكية، وإعادة تأهيل وإعادة بناء المباني وتنظيم الأقسام وتأمين الكوادر وتوفير احتياجاتهم.
على الرغم من أن الحرب أخَذَت منه أحبّة وروحانية وزملاء، إلا أنها منحته محبة الناس واحترامهم الذي يبحث عنه في سعادتهم الصادقة وابتساماتهم الواسعة وما ينطوي عليه تعبير عيونهم، وهو الأمر الذي يظهر بوضوح أثناء تجوُّله في شوارع غزة، حيث هم على يقين من أن للجراح اسمها نصيبها، فبلغت محبته لعمر الصلابين الذين اختاروا البقاء على عكس ما فعلته إسرائيل.