بيان الطبيعة.. وإيضاح الافكار

Photo of author

By العربية الآن



بيان الطبيعة.. وإيضاح الافكار

فلسطين_القدس_مسن فلسطيني يقرأ القرآن داخل المصلى القبلي خلال نهار العشر الأواخر-الجزيرة نت-
الفنوات البلاغية يعتاد دراستها في بيان الافكار في حقل البديع بتستثناء الايجاز فهو سبب بمعرفة المعاني (الجزيرة)
اختلاف بينهما.. بيان الطبيعة تلك المهارة -والشائع والسيادة- التي نالتها العرب الجاهلة، فاجتذبتهم لسماع القرآن، وأثرت فيهم، وأفضتهم إليه، بالتحدي رغم تكبر زعمائهم ومستبديهم وأكبرائهم.

البيان هو الذي حول عمر بن الخطاب من محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وجعل لبيد الشاعر يتخلى عن شعره بعد أن كان أحد شعراء الشعراء، وجعل الوليد بن المغيرة يقدم تصريحاته، وأن الثلاثة من قريش ينصتون في الظلام خوفًا من أن يلمحهم الناس.

إنها المهارة التي خلّفت في نفوس العرب الجاهليين من الآثار ما حاولنا سابقًا استشراف بعضها في المقالات السابقة.

أما إيضاح الافكار فهو تلك المهارة التي نبحث فيها الآن لتساعدنا على تفهم ما فهمه العرب، واستيعاب ما أدركوه من أسرار القرآن وإعجازه التوضيحي.

إنها البيانالتي نمت في ظل القرآن، بالإضافة إلى ما انبثق من علوم اللغة العربية، لتجويد آياته، وحفظ أصواتها، وتفسير تراكيبها ومعانيها، وفهم إعجازها وأسرار البيان فيها.

الإلقاء كان يدرك بشكل طبيعي لا بالتفكير، فورد العربي كلاماً بديعاً فتأثر به وأعجب به، ولكن الأمور تغيرت بعد انتشار الإعجاز البارع، وتفشي الإلحاح، وتداخلت العرب مع الأجانب، واتسع الفجوة بين أهل اللسان وانبعث حبهم للبلاغة والوضوح

مثال على بلاغة الطبيعة

  • ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتذكرون﴾ [سورة النحل: 90]

وعند عودتنا إلى تلك القولة التي صرح بها الوليد بن المغيرة، وأثنى فيها بشهادة حق، أقصد حين قال: “والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته” وجدنا بها استمتاعًا طبيعيًا ببلاغة القرآن، ووضوحه، وبيّانه، إنه تعبير عفوي عندما يستمع الإنسان إلى كلام يُبهره دون أي تصنع، رغم الكم الهائل الذي سمعه واطلع عليه وأذاقه من جمال الشعر ونقائه، وبديع الخطاب وجماله، وتنوع العبارات، وزيادة ذلك في أمة العرب عند نزول القرآن.

هذه الإلقاء كان يدركه الإنسان بشكل طبيعي لا بالتفكير، فورد العربي كلاماً بديعاً فتأثر به وأعجب به، ولكن الوضع تغير بعد انتشار الإلحاح، وتفشي الإلحنة، واندمجت العرب مع غيرهم، وتباعد أهل اللغة عن اللغة وتحولت اهتماماتهم نحو البلاغة والوضوح، لهذا كان من الضروري الاعتماد على التفكير البلاغي، أعني التأصيل لعلم البلاغة الذي يسعى إلى استكشاف جماليات الكلام، ووضع قواعد وأحكام لتحديد ذلك وتنظيمه وتأصيله وترتيبه عندما يكون التعبير صحيحًا.

وقد كرس علماء البلاغة جهودًا طويلة عن دراسة هذه الآية من سورة النحل التي سمعها الوليد، ليتأملوا ويستمتعوا ويستكشفوا جمالياتها، والحال يسأل: ما الذي دفع الوليد ليقول تلك الكلمة الرائعة؟ والجواب كان في اكتشاف عشرة أنواع من فنون البلاغة، أعني بلاغة الفكرة، وهي:

الاقتصار، وصحة التقسيم، والمقارنة، والتضاد، والتجانس، وجمال البيان، والاستعارة، والمقارنة، وتحديد الوقف، وانسجام السياق.

وهذه الأشكال البلاغية تتعلق عادة بفن الإبداع في علم البديع، باستثناء الاقتصار الذي يتعلق بمعرفة المعاني. وسأتناول كل منها بشيء من التفصيل.

وليس لدي شك أن هناك أسرارًا وخفايا، تعرفها من تعرفها، وتجهلها من تجهلها، قد لا نستطيع التعبير عنها، لكننا نشعر بها، وندركها، حتى وإن لم نستطع التعبير عنها بدقة ووضوح.

إن نعود إلى التفكير البلاغي سنفهم أن الأمر يتعلق بـ: أرضعيه..ثم ألقيه. والنصيحة: ولا تخافي.. ولا تحزني. والإخبار: وأوحينا إلى أم موسى .. فإذا خفت عليه.

  • ﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين﴾ [سورة القصص: 7]

يقول القرطبي في شرحه لهذه الآية.. إن الأصمعي حكى: “سمعت جارية بدوية تجدد وتقول:

أستغفر الله لذنبي كله.. قتلت إنسانًا بغير حق

مثل الغزال ناعمًا في دله.. فخانته الليلة ولم تكن تحسن المراقبة

فقلت: يا لك من كلام جميل!

وكانت ردت فعلها بسبب إحسان الذاكرة إلى قول الله تعالى: ﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه…﴾ في الآية.. فجمعت في آية واحدة بين الأمر والنهي والخبر وفتحتين.”

وإن نعود إلى التفكير البلاغي سندرك أن الأمر يتعلق بـ: أرضعيه..ثم ألقيه. والنصيحة: ولا تخافي.. ولا تحزني. والإخبار: وأوحينا إلى أم موسى .. فإذا خفت عليه. والبشارة: إنا رادوه إليك.. وجاعلوه من المرسلين.

وهذا ما يعنى به علم المعاني في تقسيم الكلام إلى خبر وخبر وعرض طرق الكلام الطلبية.

أدرك البدوي بطبيعته أن هناك من يكذب الله العظيم، فذمه باليمين في هذه الآية، لأن جمع هذه الأدوات مع اليمين لا يعكس إلا التكذيب والإنكار

  • ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون﴾ [سورة الذاريات: 22-23]

ذكر القرطبي في تفسيره لهذه الآية: وقال الأصمعي: “جاء رجل من مسجد البصرة وأعاذه اعرابي متصلب وقد استلقى، يحمل سيفه وعلى يده قوسه، فاقترب وسلم وقال: من أنت؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمع؟ قلت: نعم. قال: ومن أين انطلقت؟ قلت: من مكان يُقرأ فيه كلام الرحمن، قال: ولصاحب الرحمن كلام يقرؤه البشر؟ قلت: نعم. فقال: اقرأ علي شيئًا منه، فقرأت (والذاريات ذروا) إلى قوله: (وفي السماء رزقكم)، فقال: يا أصمع! كفى عليك! ثم قام وذبح ناقته وحدّث، فنشرناها بين القادمين والذاهبين.

وبالتالي

أقدم على سحب سيفه وقوسه، وقام بكسرهما، ثم وضعهما تحت الرحل، وانطلق نحو البادية مرددًا: “وفي السماء رزقكم وما توعدون”. شعرت بالاشمئزاز والاستياء، لكنني تابعت مع الرشيد. وأثناء تجوّلي، سمعت صوتًا رقيقًا، فلفت انتباهي الأعرابي الذي كان يبدو متهدلًا ومبتسمًا، سلمت عليه وأخذ بيدي، وطلب مني تلاوة كلام الرحمن، فجلست خلف المقام وقرأت “والذاريات” ووصلت إلى قوله تعالى: “وفي السماء رزقكم وما توعدون”. أعرب الأعرابي قائلًا: لقد وفّى الرحمن بوعدِه، وتساءل: هل هناك شيء غير ذلك؟ أجبته بنعم، مستشهدة بقوله تعالى: “فو رب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون”، فتفاجأ الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من أثار غضب الجليل حتى أقسم؟ أولم يكنوا يؤمنون به كلامه حتى لجأوا إلى القسم؟ تكرر هذا الحديث ثلاث مرات وعبر عن اندهاشه.
الأعرابي استوعب، من خلال فطرته، أن هناك الذين يكذبون على الله تعالى، ولذلك جرّه إلى القسم الموجود في الآية؛ فتوضح هذه المؤكدات مع القسم توجّه الكذب والإنكار، وهو ما تم تأكيده بنتاج فكري حيث أطلق عليها تسمية “الضرب الإنكاري” من مضرب الخبر. ويُفرق مضرب الخبر بحسب العلماء ثلاثة أنواع:

  • الأول: ابتدائي، وهو ليس في حاجة إلى تأكيد لعدم تواجد حكم فيه، مثال على ذلك: أخوك قادم.
  • الثاني: طلبي، يحتاج إلى تأكيد للمردود المتردد، كما في: إن أخاك قادم.
  • الثالث: إنكاري، موجه لنافي الخبر ويحتاج إلى تأكيد متعدد، على سبيل المثال: والله إن أخاك لقادم.

تجتمع هذه الأنماط الثلاثة في قصة أصحاب القرية في سورة يس [13-16]: “واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون”.

تمثّل هذه القصة دورة كاملة من الضرب النحوي، بدءًا بالابتدائي الخالي من المؤكدات، تليه الطلبي الذي يحتوي على تأكيد واحد، وانتهاءً بالإنكاري الذي يشمل القسم، والإن، ولام التوكيد المعروفة باللام المزحلقة. قدمت الأمثلة بدقة وإتقان، لإثبات كفاية بلاغة هذه الفكرة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب وقد لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر قناة الجزيرة.



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.