بيان الطبيعة.. وإيضاح الافكار
البيان هو الذي حول عمر بن الخطاب من محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وجعل لبيد الشاعر يتخلى عن شعره بعد أن كان أحد شعراء الشعراء، وجعل الوليد بن المغيرة يقدم تصريحاته، وأن الثلاثة من قريش ينصتون في الظلام خوفًا من أن يلمحهم الناس.
إنها المهارة التي خلّفت في نفوس العرب الجاهليين من الآثار ما حاولنا سابقًا استشراف بعضها في المقالات السابقة.
أما إيضاح الافكار فهو تلك المهارة التي نبحث فيها الآن لتساعدنا على تفهم ما فهمه العرب، واستيعاب ما أدركوه من أسرار القرآن وإعجازه التوضيحي.
إنها البيانالتي نمت في ظل القرآن، بالإضافة إلى ما انبثق من علوم اللغة العربية، لتجويد آياته، وحفظ أصواتها، وتفسير تراكيبها ومعانيها، وفهم إعجازها وأسرار البيان فيها.
الإلقاء كان يدرك بشكل طبيعي لا بالتفكير، فورد العربي كلاماً بديعاً فتأثر به وأعجب به، ولكن الأمور تغيرت بعد انتشار الإعجاز البارع، وتفشي الإلحاح، وتداخلت العرب مع الأجانب، واتسع الفجوة بين أهل اللسان وانبعث حبهم للبلاغة والوضوح
مثال على بلاغة الطبيعة
- ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتذكرون﴾ [سورة النحل: 90]
وعند عودتنا إلى تلك القولة التي صرح بها الوليد بن المغيرة، وأثنى فيها بشهادة حق، أقصد حين قال: “والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته” وجدنا بها استمتاعًا طبيعيًا ببلاغة القرآن، ووضوحه، وبيّانه، إنه تعبير عفوي عندما يستمع الإنسان إلى كلام يُبهره دون أي تصنع، رغم الكم الهائل الذي سمعه واطلع عليه وأذاقه من جمال الشعر ونقائه، وبديع الخطاب وجماله، وتنوع العبارات، وزيادة ذلك في أمة العرب عند نزول القرآن.
هذه الإلقاء كان يدركه الإنسان بشكل طبيعي لا بالتفكير، فورد العربي كلاماً بديعاً فتأثر به وأعجب به، ولكن الوضع تغير بعد انتشار الإلحاح، وتفشي الإلحنة، واندمجت العرب مع غيرهم، وتباعد أهل اللغة عن اللغة وتحولت اهتماماتهم نحو البلاغة والوضوح، لهذا كان من الضروري الاعتماد على التفكير البلاغي، أعني التأصيل لعلم البلاغة الذي يسعى إلى استكشاف جماليات الكلام، ووضع قواعد وأحكام لتحديد ذلك وتنظيمه وتأصيله وترتيبه عندما يكون التعبير صحيحًا.
وقد كرس علماء البلاغة جهودًا طويلة عن دراسة هذه الآية من سورة النحل التي سمعها الوليد، ليتأملوا ويستمتعوا ويستكشفوا جمالياتها، والحال يسأل: ما الذي دفع الوليد ليقول تلك الكلمة الرائعة؟ والجواب كان في اكتشاف عشرة أنواع من فنون البلاغة، أعني بلاغة الفكرة، وهي:
الاقتصار، وصحة التقسيم، والمقارنة، والتضاد، والتجانس، وجمال البيان، والاستعارة، والمقارنة، وتحديد الوقف، وانسجام السياق.
وهذه الأشكال البلاغية تتعلق عادة بفن الإبداع في علم البديع، باستثناء الاقتصار الذي يتعلق بمعرفة المعاني. وسأتناول كل منها بشيء من التفصيل.
وليس لدي شك أن هناك أسرارًا وخفايا، تعرفها من تعرفها، وتجهلها من تجهلها، قد لا نستطيع التعبير عنها، لكننا نشعر بها، وندركها، حتى وإن لم نستطع التعبير عنها بدقة ووضوح.
إن نعود إلى التفكير البلاغي سنفهم أن الأمر يتعلق بـ: أرضعيه..ثم ألقيه. والنصيحة: ولا تخافي.. ولا تحزني. والإخبار: وأوحينا إلى أم موسى .. فإذا خفت عليه.
- ﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين﴾ [سورة القصص: 7]
يقول القرطبي في شرحه لهذه الآية.. إن الأصمعي حكى: “سمعت جارية بدوية تجدد وتقول:
أستغفر الله لذنبي كله.. قتلت إنسانًا بغير حق
مثل الغزال ناعمًا في دله.. فخانته الليلة ولم تكن تحسن المراقبة
فقلت: يا لك من كلام جميل!
وكانت ردت فعلها بسبب إحسان الذاكرة إلى قول الله تعالى: ﴿وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه…﴾ في الآية.. فجمعت في آية واحدة بين الأمر والنهي والخبر وفتحتين.”
وإن نعود إلى التفكير البلاغي سندرك أن الأمر يتعلق بـ: أرضعيه..ثم ألقيه. والنصيحة: ولا تخافي.. ولا تحزني. والإخبار: وأوحينا إلى أم موسى .. فإذا خفت عليه. والبشارة: إنا رادوه إليك.. وجاعلوه من المرسلين.
وهذا ما يعنى به علم المعاني في تقسيم الكلام إلى خبر وخبر وعرض طرق الكلام الطلبية.
أدرك البدوي بطبيعته أن هناك من يكذب الله العظيم، فذمه باليمين في هذه الآية، لأن جمع هذه الأدوات مع اليمين لا يعكس إلا التكذيب والإنكار
- ﴿وفي السماء رزقكم وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون﴾ [سورة الذاريات: 22-23]
ذكر القرطبي في تفسيره لهذه الآية: وقال الأصمعي: “جاء رجل من مسجد البصرة وأعاذه اعرابي متصلب وقد استلقى، يحمل سيفه وعلى يده قوسه، فاقترب وسلم وقال: من أنت؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمع؟ قلت: نعم. قال: ومن أين انطلقت؟ قلت: من مكان يُقرأ فيه كلام الرحمن، قال: ولصاحب الرحمن كلام يقرؤه البشر؟ قلت: نعم. فقال: اقرأ علي شيئًا منه، فقرأت (والذاريات ذروا) إلى قوله: (وفي السماء رزقكم)، فقال: يا أصمع! كفى عليك! ثم قام وذبح ناقته وحدّث، فنشرناها بين القادمين والذاهبين.
وبالتالي
- الأول: ابتدائي، وهو ليس في حاجة إلى تأكيد لعدم تواجد حكم فيه، مثال على ذلك: أخوك قادم.
- الثاني: طلبي، يحتاج إلى تأكيد للمردود المتردد، كما في: إن أخاك قادم.
- الثالث: إنكاري، موجه لنافي الخبر ويحتاج إلى تأكيد متعدد، على سبيل المثال: والله إن أخاك لقادم.
تجتمع هذه الأنماط الثلاثة في قصة أصحاب القرية في سورة يس [13-16]: “واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون”.