كيف تكون قرارات الحكومة الممتازة.. مدمرة؟!
يلخص ريتشارد ثالر قصة مسلية: كان يقوم بتدريس صف عن اتخاذ القرارات التجارية لطلاب كلية إدارة الأعمال.. حيث كان بعض الطلاب يغادرون الحصة مبكرًا، ويتسللونخارج القاعة بطريقة سرية جدًا، وللسوء حظهم، ان الطريق الوحيد للخروج يمر عبر باب كبير مزدوج، ومجهز بمقابض خشبية طويلة على كل جانب.
كانت المقابض مثبتة بشكل عمودي. عندما يرغب الطلاب في المغادرة، يتسللون ويصلون الى هذا الباب المزدوج، يواجهون غريزتين متضاربتين: إحداهما مستمدة من تجربتهم السابقة في فتح الأبواب وتقترح؛ أن مغادرة القاعة تحتاج الى دفع الباب.
توجيهات مخفية
الغريزة الأخرى مصممة للتعامل مع التوجيه الضمني الموجود في المقابض، وتقول؛ اذا واجه الطالب المقابض الخشبية الكبيرة المصممة للإمساك بها، عليه سحب الباب، وتبين ان هذه الغريزة، كانت أقوى من الأولى، وبدأ كل طالب في سعيهم للخروج بسحب الباب، لكن الباب كان يقاوم ولا يفتح؛ لأنه كان ينفتح الى الخارج لسوء الحظ.
يمكنكم تخيل المواقف المضحكة التي تنشأ من ذلك، والحرج الذي يتعرض له الطلاب المتسللون دائمًا، وهم يتصارعون مع الباب برغبة في الخروج، بينما يتمتع المعلم السيد ثالر وبقية الطلاب بمشاهدتهم وهم يعانون ويحاصرون امام الباب المزدوج الذي يكشف تسللهم في كل مرة.
الدرس الأول يقول؛ انه قد يبدو لنا اننا نتخذ العديد من القرارات بحرية في حياتنا، ولكن في الواقع ما نواجهه في حياتنا من اختيارات، يمكن ان يكون مؤثرًا بشكل كبير من التوجيهات الضمنية والمخفية التي قد لا نلاحظها، ومع ذلك تؤثر في حياتنا وفي اقراراتنا، لذلك لم تستطع الطلاب تجاهل الرسالة الواضحة التي كان ينقلها المقبض الخشبي الكبير: أنا هنا لتجذبني.
الحكاية الثانية؛ بطلاها كارولين وآدم؛ كارولين هي مديرة خدمات التغذية لنظام المدارس في مدينة، وآدم مستشار اداري يعمل مع سلاسل أسواق كبيرة. لاحظت كارولين ان معظم الطلاب في المدارس يختارون اطعمة قد تكون اقرب الى نظام الوجبات السريعة واقل قربا من النمط الصحي؛ قرر الصديقان ان يقوموا بتجربة طموحة، تهدف الى تغيير الطرق التي يتعرض بها الاطعمة وكيفية ترتيبها، دون ادخال اي تعديل في قوائم الطعام: وهكذا في بعض المدارس وضعت الحلويات اولا، وفي مدارس اخرى وضع الجزر على مستوى النظر في اول صف، وتم تاخير البطاطس المقلية الى اخر صف في الاسفل، وهكذا.
وكانت نتيجة التجربة رائعة: بإمكان كارولين زيادة استهلاك الطلاب للاطعمة الصحية، وتقليل استهلاكهم للاطعمة غير الصحية دون ادخال تغييرات في قوائم الطعام، بل فقط من خلال ادخال تغييرات طفيفة في طريقة عرض الاطعمة.
الدرس الثاني الذي نتعلمه هنا، هو انه يمكننا التدخل لتحسين نوعية القرارات التي يتخذها الناس، بشكل يضمن في آن واحد منافعهم وتحسين حياتهم، والحفاظ على حريتهم الكاملة في الاختيار، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تصميم الاختيارات على نحو معين.
الحكاية الثالثة من المغرب، مع اتساع دوائر التحضر، بدأت ألاحظ ان المدن الكبيرة تتجه بشكل اسرع نحو التخلي عن العادات والتقاليد الاصيلة التي نشأنا عليها، في احدى الأحياء الراقية في مدينة، حينما ادخل بعض المتاجر وألقي التحية، يصدمني بأن “زبائن” المتجر يتجهون ناحيتي من باب الفضول لمعرفة من هو هذا الغبي الذي ما زال يلتزم بتحية “السلام عليكم”، ثم يستديرون ويواصلون ما يقومون به متجاهلين تمامًا تحية، ويجعل ذلك يثير ازعاجًا كبيرًا. لكن في مدينتي الصغيرة، حيث ولدت ونشأت، ما زال الناس يحرصون على رد التحية، ومساعدة المحتاجين، واحتضان الغرباء، لكن يبدو ان ذلك لن يدوم طويلا!
تم افتتاح متجر متوسط يحاكي تجربة الأسواق الكبيرة في طريقة الدخول والخروج، وترتيب البضائع على الرفوف، مع وجود بائعتين بصفي انتظار، وقد نجح المتجر في جذب العديد من الزبائن الذين يبحثون بشكل رئيسي عن ارضاء رغبتهم في التحضر والتمدن. الامر المثير هو اني لا أجد نفسي لأول مرة في مدينتي الجميلة، أدخل متجرًا، ولا يوجد للتحية معنى أو دافع ولا حاجة: فباب الدخول يقودني إلى اول جناح عرض للبضائع، واجده خاليا من الزبائن عموما، فعند من يجب علي ان ألقي التحية؟ ثم أبدأ في مصادفة مشتتين بين الرفوف، فهل ينبغي علي ان أسلم على كل زبون التقيته؟
حكمة تركيبية
اكثر ما يقلقني في هذا الأمر، هو أن سكان مدينتي الطيبين، يستوعبون في كل زيارة لهذا المتجر، دروسًا اجتماعية عملية، تعلمها ان هناك سياقات يمكنك ان تختار فيها عدم القيام بالتحية، ومع مرور الوقت، ستبدأ الناس في التخلي عن آداب التحية في سياقات متنوعة، وينسون تدريجيًا التصرف بأدب مع الآخرين والاهتمام بأمورهم، ويصبحون مماثلين لسكان المراكز الحضرية الكبيرة، الذين يجمعون بين شدة الاناقة في المظهر، والبرودة الفائقة في التعاطف الانساني!
الدرس الثالث هنا، هو ان بعض السياقات المتعلقة بمجالات
مولودة، قد تنعكس بشكل سلبي في ميادين أخرى تظهر ببُعد عنها، عبر توجيه الأفراد بشكل غير عمدي وغير مباشر لاتخاذ قرارات وسلوكيات ضارة.
وحين نريد ترتيب الدروس الثلاثة السابقة في مثال حكيم، ستكون كالتالي: العديد من القرارات التي قد تصدرها جهات حكومية، او توجهات تجارية او فنية، قد تكون مفيدة في مجالها الضيق، ومع ذلك تكون كلفة على الصعيد الأخلاقي او الحضاري او القيمي.. وتسهم سلبًا في المجتمع عبر التوجيهات الخفية والغير واضحة للأفراد.
ولإثبات أن بعض القرارات الجيدة قد تكون ضارة، سأحكي لكم القصة التالية، تحتاج لبعض التأمل:
في إحدى مدن المغرب، أخيرًا قامت السلطات بتفكيك حي عشوائي ضخم نشأ من خلال استقطاب المهاجرين من البوادي والذين اضطروا للهجرة بحثًا عن فرص عمل بسبب الجفاف، ونظرًا لعدم قدرتهم على شراء منازل لائقة، بدأوا في بناء مساكن عشوائية توسعت مع مرور الزمن.
نظرًا للظروف التي عاشها سكان ذلك الحي، الذي تأخرت الجهات المعنية طويلا في التعامل معه، تحوّل إلى بؤرة إجرامية خطيرة تهدد أمن المدينة الصغيرة التي اشتهرت بسلامتها وطيبة أهلها.
وبالرغم من بداية ظهور بعض الأعمال الإجرامية في المدينة، لكن معظم الأحياء ظلت ذات طابع آمن، باستثناء الحي العشوائي الذي كان مقرًا للإجرام وصراعات العصابات.. قام المسؤولون بخطوة ايجابية بتفكيك الحي العشوائي بالكامل، من أجل بناء حي جديد مُنظم، يضم سكنًا ملائمًا مع جميع الخدمات من مدارس وغيرها. وجراء ذلك، تنقَل سكان الحي المذكور لأنحاء المدينة، واستأجروا شققًا مؤقتة في انتظار الانتهاء من تأهيل الحي الجديد.
لكن المنحرفون والمجرمون والمراهقون الذين كان نشاطهم المجرم محصورًا في حيهم القديم، هاجروا أيضًا لجميع أحياء المدينة، وأدخلوا عاداتهم الجرمية وتصرفاتهم العنيفة، وقياداتهم الهمجية للسيارات القديمة، ولغاتهم السيئة، واستهتارهم بتعاطي المخدرات.. جعل الكثير من المجتمعات السكنية الهادئة والآمنة تعاني من إزعاج كبير وخوف من التعرض للعنف.
تعديل الهوية
وتتعدى التكاليف الاجتماعية والأخلاقية لقرار الإجلاء الكامل في تحمّل سكان المدينة وتعرضهم للاساءات المتكررة فقط، بل يرتبط الأمر بتغيير هُوية المدينة برمتها، فالمجرمون المنتشرين في جميع الأحياء يقدمون تجربة جرمية متصفة لبعض المراهقين الذين يميلون للانحراف، ويجعلونهم أكثر جرأة على تجاوز قيم المجتمع وتقاليده، ويضطر ضباط الأمن لمواجهة تلك الظواهر الإجرامية بعد تشتت المعلومات التي كانوا يتاح بها ونقل المنحرفين الى كل مكان.
فإجراء هدم الحي العشوائي واقامة حي جديد ملائم في مكانه، قرار سديد وفعال ضمن معايير الاحترام والتخطيط العمراني وسياسات المدينة، لكن المسؤولين عنه، لا يستطيعون – بسبب طبيعة عملهم وتخصصاتهم – ان يتوقعوا أن طريقة تنفيذ هذا القرار هي كارثية لمستويات أخرى بعيدة عن مادة التخطيط العمراني: القرار كاره على الصعيد الأخلاقي والتعليمي والاجتماعي، وانه يغير هوية المدينة نهائيًا، وكأنهم افتتحوا بدون قصد “وباء جرمي” مُعدي بقسوة في كل المدينة.
في النهاية؛ الكثير من القرارات التي قد تُتخذ من قبل أطراف حكومية، او شخصيات مختلفة في ميادين السياسة والتجارة والفن وتحكيم العمل الديني والتعليم والزراعة وما إلى ذلك.. قد تكون صائبة ومفيدة في مجالها الضيق، ومع ذلك تكون كلفة على الصعيد الأخلاقي او الحضاري او القيمي او المجتمعي عمومًا.. وتؤثر سلبًا في المجتمع عبر التوجيهات الخفية للأفراد، تدفعهم إلى اكتساب عادات اجتماعية ضارة، او التخلي عن ممارسات اجتماعية مفيدة.
لذا ينبغي علينا النظر ليس فقط في الجانب الاقتصادي للقرارات الجديدة التي تُتخذ، وإنما يجب ايضًا أن ندرس الجوانب الأخلاقية والقيمية والحضارية لتلك القرارات، والا فمن الممكن بشدة ان تكون هذه القرارات كارثية جدًا!