نعم. شائع بيريز الذي كشف هذا المزارع الألماني البسيط سرّه كان فعلًا في طريقه صوب وزير الدفاع الألماني آنذاك، فرانس يوزف شتراوس الذي سرد في سجلاته التي نُشرت عام 1989 جزءًا من قصة لقائه بشائع بيريز، رئيس وزراء إسرائيل مرتين.
كتب شتراوس في سجلاته أنه تلقى رسالة مشفرة تطلب منه استقبال وفد إسرائيلي بقيادة موشي ديان، رئيس الأركان حينها و”بطل معارك سيناء” وقد وافق على ذلك على الفور.
لأسباب مرتبطة بالسرية اللازمة للانعقاد -حسبما سجل شتراوس- لم يحضر موشي ديان واحتل مركزه الجنرال حاييم لاسكوف،قائد وحدة المركبات المدرعة في “حملة سيناء” وضابط ذو رتبة عالية آخر بالإضافة إلى زعيم الوفد شيمون بيريز.
قدم شتراوس وصفاً مختلفاً لهذا اللقاء الذي يشير إلى أنه جرى في أجواء استثنائية. حيث أدلت المشاورات التي جرت لمدة خمس ساعات في “منزله الخاص” – كما أفاد وزير الدفاع الألماني – وليس في العاصمة الألمانية آنذاك بون، و”عندما امتد الحديث، أعدت زوجته العشاء وتبادلا الحديث حتى نصف الليل (…). الجو كان بارداً في الخارج فقط، أما بيريز وأنا، فلم نواجه أي تحديات لبدء حديث صريح وإنساني (…). منذ البداية، كان هناك أساس من الثقة قائم أظهر جدارته في الصمود على مدى عدة عقود، ومنذ البداية عرفت أن الإسرائيليين يميزون بين صداقات الأقوال الفارغة والأفعال الجريئة”.
وبسبب أن توريد الأسلحة لإسرائيل في تلك الفترة “لم يكن طريقًا واضح المعالم” حسب قولة ألمانية شهيرة ويخالف جميع قوانين ميزانية الدولة الألمانية، وبسبب عدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين، يقول شتراواس إنه أراد “حماية نفسه”، وقد أطلع المستشار الألماني في ذلك الحين كونراد آدناور على اللقاء وطلبات إسرائيل، “وافق آدناور على الفور وبدأنا في تفريغ مخازن الجيش الألماني من الأسلحة وأعلنا للشرطة أنها تعرضت للسرقة (…) أما الطائرات والمروحيات والمعدات الثقيلة فقد تم نقلها بعد إزالة رموز ألمانيا الاتحادية عنها إلى فرنسا لنقلها من مرسيليا إلى الموانئ الإسرائيلية”.
كانت قيمة هذه الأسلحة بالنسبة للجانب الإسرائيلي هامة من الناحية الروحية، وكانت تندرج ضمن التعويضات التي تعهدت ألمانيا بتقديمها لإسرائيل وفقًا لاتفاقية لوكسمبورغ (1952) التي التزمت فيها ألمانيا بسياسة دفع تعويضات لليهود الناجين من جريمة الهولوكوست (Wiedergutmachungspolitik) ولدولة إسرائيل باعتبارها وريثة حقوق الضحايا اليهود. هنا، يسجل شتراوس أن القيمة الإجمالية للأسلحة التي تم الاتفاق عليها في هذا اللقاء بلغت 300 مليون مارك ألماني غربي، وحدث ذلك كله بدون مقابل لسبع سنوات متتالية بسرية تامة حتى عام 1964 عندما تم الكشف عن سر شتراوس وبيريز خلف صفقة المركبات المدرعة. وفي ذلك الوقت، كان لودفيغ إيرهارد يشغل منصب المستشار لألمانيا.
في نهاية المطاف، اعتبر شتراوس التعاون العسكري مع الإسرائيليين مُلفت للانتباه كونه قد أدى إلى استقالته من وزارة الدفاع نتيجة الضغوط التي مارسها عليه غيرهارد شرودر الذي أصبح في عام 1961 وزيرًا للخارجية (…). اعتبر شرودر أن التعاون العسكري مع الإسرائيليين يضر بالعلاقات مع الدول العربية.
وصل الخلاف الدبلوماسي أخيرًا إلى مرحلته العنيفة التي قام فيها الرئيس جمال عبد الناصر بدعوة زعيم ألمانيا الديمقراطية الشرقية السابق والتي كانت تستدعي والتر أولبريخت لزيارة القاهرة، كما هددت بعض الدول العربية، بما في ذلك سوريا، بإقامة علاقات دبلوماسية مع ألمانيا الشرقية. بعد مناقشات طويلة في البرلمان الألماني تحولت إلى إمكانية تبني “عقيدة هالشتاين” التي تنص على قطع العلاقات الخارجية مع أي دولة تتعاون مع ألمانيا الشرقية. بعد مرور هذه الأحداث، دخلت ألمانيا في أول أزمة دبلوماسية خارجية منذ قيامها كدولة في مايو/أيار من عام 1949. وفي النهاية، اتخذت حكومة بون قرارًا بوقف تصدير الأسلحة إلى أي دولة تتورّط في صراعات بمنطقة الشرق الأوسط.
بعد سبع سنوات من توقيع اتفاقية بيريز وشتراوس وتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، وصل التعاون العسكري بينهما إلى نقطة ذروته اعتبارًا من عام 2003، حيث باتت ألمانيا تحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة – وفي بعض السنوات المرتبة الأولى – في توريد الأسلحة إلى إسرائيل.
ففي العام المذكور وحده، منحت وزارة الاقتصاد الألمانية بحسب المشرفة على دراسة مؤسسة فورِنسِس 308 تراخيص تم بموجبها تسليم إسرائيل أسلحة بقيمة أكثر من 326 مليون يورو (348 مليون دولار) بارتفاع 10 أضعاف مقارنة بعام 2022.
ومن اللافت أن 88% من هذه الأسلحة تمت الموافقة عليها في النصف الثاني من العام الماضي وتحديدا بعد السابع من أكتوبر. فوفقًا للقناة الألمانية الأولى “إيه آر دي” (ARD) منحت الحكومة الألمانية بين السابع من أكتوبر/تشرين الأول والثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، أي في غضون 26 يوما فقط، 185 ترخيصا لتسليم إسرائيل أسلحة جديدة.
وإذا استثنينا التراخيص المخصصة لتسليم إسرائيل في العقدين الماضيين سفنا حربية كبيرة وغواصات وقوارب حربية، فيمكن القول إن عام 2023 شهد تسليم إسرائيل أكبر حجم من المعدات العسكرية الألمانية في غضون عقدين.
وبحسب التقرير رقم (WD 5 – 3000 -004/24) الصادر عن البرلمان الألماني في أبريل/نيسان الجاري ودراسة فورنسِس، شملت صفقات الأسلحة في العام الماضي تسليم إسرائيل أسلحة مختلفة توزعت على الشكل التالي: عربات مجنزرة ومدولبة (65 تصريحا) وتكنولوجيا عسكرية (57 تصريحا) وإلكترونيات عسكرية (29 تصريحا) وقنابل وطوربيدات (صواريخ مضادة للسفن) وصواريخ ومقذوفات ومتفجرات متنوعة (17 ترخيصا)، إضافة إلى كميات قليلة من الذخائر والمتفجرات المخصصة لأسلحة من العيار الثقيل وللأسلحة اليدوية.
وبخصوص ما يسمّى “القطاع الفرعي للأسلحة الحربية” فإن ألمانيا -كما ورد في الدراسة- زوّدت إسرائيل في العام ذاته بأسلحة بقيمة 20 مليون يورو، جاءت على الشكل التالي: 3 آلاف قطعة من الأسلحة المحمولة المضادة للدروع (قاذف RW 90 أو ماتادور)، و500 ألف قطعة ذخيرة للرشاشات والمسدسات وغيرها من الأسلحة اليدوية.
ماتادور من DND الألمانية إلى
الكيان الصهيوني
ومن بين أهم الأسلحة الخفيفة التي حصل عليها الكيان الصهيوني من ألمانيا مُشَتَّت القذيفة الأخف في العام ماتادور أو “RGW 90” الذي تقوم بإنتاجه شركة تصنيع الأسلحة الألمانية داينامايت “نوبل ديفنس” Nobel Defence (DND) التي تملك بالكامل منذ منتصف عام 2000 شركة الدفاع المتقدمة الإسرائيلية “رافائيل” (شركة رافائيل لأنظمة الدفاع المتقدمة).
ويُشير شفارتس، نائب رئيس قسم القانون الدولي في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، الذي قدّم بالتعاون مع مركز حقوق الإنسان الفلسطيني “PCHR” ومنظمة الميزان لحقوق الإنسان في غزة، ثلاث شكاوى قانونية مقدمة ضد حكومة برلين في ألمانيا، إلى أن استحواذ شركة رافائيل الإسرائيلية على شركتها الألمانية “DND” لا يعفي الحكومة الألمانية من المسؤولية عن تزويد الجيش الإسرائيلي بمدافع ماتادور.
وأوضح شفارتس للجزيرة نت أن صلاحيات اتخاذ قرارات التصدير ونقل هذه الأسلحة تخضع لقوانين تصدير الأسلحة القتالية الألمانية، مشيدًا بزملائه في المركز لمُلاحظتهم أن المَجلس الأمني الألماني الفرعي الذي ينتمي إليه وزير الاقتصاد روبرت هابك المسؤول عن منح تراخيص تصدير الأسلحة، لم يُفحص بدقة المعايير المُعنية بإصدار هذه التراخيص.
هل تعتقد أن الحكومة الألمانية كانت ساذجة أم جاهزة للمخاطرة عندما منحت هذه التراخيص؟ سؤال قد يُطرح على شفارتس، الذي يُجيب بأن تقديم هذه السماحيات يتطلب دراسة وتقييم دقيق للتزامات ألمانيا بمعايير تصدير السلاح، وأن العمل في هذا الصدد يمكن أن يُكشَف عن إهمال في مراعاة حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي المتعلق بالنزاعات المُسلحة.
بإحكام المقتضيات القانونية، تعتبر ألمانيا منحت تصاريح لسلاح يستخدم في أنشطة عسكرية تنتهك القوانين الإنسانية الدولية.
القاذف ماتادور لا يقتصر على مواجهة المركبات المدرعة فقط؛ بل يستخدم كسلاح للقضاء على الأفراد في الخنادق وضد المباني وفي تدمير البنية التحتية، وذلك بفعاليته في اختراق 100 سم من الإسمنت المسلح. وتصف الشركة نفسها القاذف ماتادور بأنه “مصمم لمحاربة المركبات المدرعة والعربات وتدمير البنية التحتية والأفراد”.