“أعلى تطورات الرأسمال”.. من الاستعمار والاستيطان إلى الثورة الصناعية
وكان ذلك أحد سمات خروج أوروبا إلى العالم على أنهَ مجالٌ متاحٌ للتوسع والهيمنة والاستيطان وإبادة، والتي تبتغي العالم بروح إمبراطورية طامسة للقداسة، وتُصغر العالم لتُلغي التنوع والثقافات والحضارات الأخرى، وتظهر في مفاهيم العنصرية وتفوق الجنس الأبيض والداروينية الاجتماعية والتكنولوجيا العلمانية الوحشية تجاه الإنسان والطبيعة.
في البداية ظهر الاستيطان!
اعتمد الصعود الأوروبي على "الاكتشافات الجغرافية"، وعدالة الحرب، ونظرية الرجل الأبيض المتحضر كتبرير للاحتلال والاستيطان وإبادة سكان القارات وإنشاء مستوطنات أوروبية في البلدان البعيدة، حيث قسمت الإمبراطوريات قارات العالم.
تم نقل عشرات الملايين من الأفارقة المختطفين من غرب أفريقيا واستعبادهم في مزارع التبغ والقطن وقصب السكر في جنوب الولايات المتحدة وجزر الكاريبي ومن الهند وجزر الهند الشرقية إلى جنوب أفريقيا وإقليم الأنديز في أميركا الجنوبية، حيث قاموا بالبات على مصائر سكان وسط وجنوب أمريكا الأصليين حتى الموت في مناجم الذهب والفضة ونهب كنوز ممالك الآزتيك والمايا، ومن ثم نقلت هذه الثروات إلى مدن أوروبا الكبرى.
خلال هذه المرحلة الإمبراطورية المرتبطة بالتجارة، تراكمت ثروات هائلة عند الأوروبيين مما أدى إلى ثورة صناعية ونظام رأسمالي تضمن زيادة النزاع والظلم في الحداثة الأوروبية مع كل أشكاله من احتكار واستغلال وظلم اجتماعي وأزمات مستمرة. وتبنت نظاما سياسيا وتشريعيا ودستوريا لدعم المشروع الإمبراطوري الرأسمالي بما في ذلك: الديمقراطية التمثيلية داخليا والتحالفات العسكرية خارجيا. وهكذا تم اكتمال أركان المشروع الغربي: الإمبراطورية والرأسمالية والفاشية.
قامت مشروعات استيطانية كبرى في القرون السابقة في أميركا وأستراليا ونيوزيلندا وأفريقيا، وتطلب نجاحها وتوسعها من القضاء على جماعات السكان الأصليين، بالحصار والإستغلال والإبادة والإقصاء الثقافي. وشكل النظام الدولي خلال القرون الخمس الماضية حول مشروعات الاستعمار والاستيطان واحتكار الأسواق والموارد الطبيعية والهيمنة والنهب والتدنيس.
واليوم، تشكل هذه المشروعات الاستيطانية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا تحالفا بحريًا عالميًا، حيث تمثل الدوامة الأنكلوسكسونية Anglosphere، وتتميز بأمنها وسيادتها وعلاقاتها العسكرية، ولا تقل أهمية هذه التكتل—كنواة للنظام العالمي الحالي—عن حلف شمال الأطلسي، وترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذا لم يكن أكثر.
ومن غير الصحيح أن تعاني البشرية تحت سلطة نظام دولي استيطاني إمبراطوري رأسمالي، بل تطمح إلى تحرير نفسها من خلال نظام دولي يقوم على العدالة والمساواة والسلام، خاصة في ظل استيقاظ الجنوب العالمي والأزمات الحالية التي تؤثر في النظام العالمي المتمرّس تحت السيطرة الاستيطانية العالمية وتظهر تلاشي قوتها وسقوط أخلاقياتها وانهيار منظومتها الأخلاقية في دوامة العنف غير المتوقع ومن تجلياتها: حروب لا نهاية لها وتطابق العدم ومحاولات الإبادة.
الأنماط الصناعية
تقليديًا، بدأت الثورة الصناعية في إنجلترا في منتصف القرن التاسع عشر، ثم اتسمت بوجودها في بلجيكا وفرنسا وهولندا، حيث لعبت المرحلة الإمبراطورية التجارية دورًا مهمًا في تجميع الثروات التي سمحت بالاستثمار في الصناعة وإنشاء المصانع وتحسين الإنتاج والاستثمار في البحث والتطوير في هذا المجال.
على الرغم من أن التأخير في الاستعمار الألماني وتقيّد نشاطه إلى مناطق محددة مثل ناميبيا جنوب غرب القارة الأفريقية (1884)، حيث ارتكب الألمان أعمال إبادة جماعية (1904-1907) ضد السكان الأصليين، هيريرو وناما، فإن التاريخ الاقتصادي الألماني يقدم تجربة مختلفة في النهوض الاقتصادي والثورة الصناعية تختلف تمامًا عن التجربة الأنكلوسكسية.
ففي ألمانيا، قام البنك ومدخرات الشعب الألمانيقام دورا بتولي قيادة قسم الصناعة والتطور، بالإضافة إلى استيعاب مفاهيم الاجتماع الألماني "التراحمي" كمقابل لمفاهيم الاجتماع "التعاقدي"، وكذلك التميز الذي تميزت به الصناعة الألمانية.
كان من الممكن على الاقتصاد الألماني وغيره عدم الاضطرار للاستيلاء الاستعماري المبكر والمرحلة التجارية، اللذان اعتبرا ضرورة تاريخية لتجميع الثروة والرأسمال الضروري لبزوغ الثورة الصناعية.
هذا، بدوره، ينفي حتمية المسار الرأسمالي الأنكلوسكسوني في تنظيم المجتمع وتنمية الثروات وتوسيع الاقتصاديات. بل إن النظام الرأسمالي وهيكله القيمي والعملي الذي يحكم حاليا الغرب وأماكن أخرى من العالم، قد لم يكونا ربما موجودين من قبل في أي مكان آخر في العالم منذ مائتي عام، وكانا أبعد مما تتصور عن القارة الأوروبية.
الرأسمالية والبروتستانتية
يوجد عامل آخر في نشأة الرأسمالية وهو الأخلاق البروتستانتية. ففرضت البروتستانتية معرفة القراءة والكتابة على السكان الذين تسيطر عليهم، لأنه يتوجب على جميع المؤمنين الوصول مباشرة إلى الكتاب المقدس. السكان المتعلمون قدرهم على التنمية الاقتصادية والتقنية. صاغت البروتستانتية، عن طريق الصدفة، عمالة متفوقة وفعالة. وبهذا المعنى كانت ألمانيا "في قلب التقدم الغربي"، حتى مع بداية الثورة الصناعية في إنجلترا.
يلاحظ المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود أن البروتستانتية تقع مرتين في قلب تاريخ الغرب: من خلال الدافع التعليمي والاقتصادي، مع خوف "المؤمنين" من السخط الإلهي ورغبتهم في الخلاص وحاجتهم للشعور بالاصطفاء الإلهي. من خلال فكرة أن البشر غير متساويين، وبذلك تم تطوير أخلاقيات عمل منظمة وقوة أخلاقية جماعية قوية، وتعزيز الادخار وتأجيل المتعة.
وهذا الأمر الذي يطلق عليه المفكر الألماني ماكس فيبر "تقوى حضرية"، أدى إلى تشكل الرأسمال واستثمار عائد الإنتاج وتوسيعه وهذا، بدوره، علاقة وثيقة بروح الرأسمال المبكرة، خصوصا في مجالات الاستيطان في القارة الأوروبية الكبيرة، حيث كانت البروتستانتية المحرك الرئيس لمشروع الاستيطان في العالم الجديد. فهذه المجتمعات الاستيطانية هاجرت واستوطنت المستعمرات نتيجة لدوافع تشمل الاضطرابات السياسية والاضطهاد الديني وحروب الدين والمجاعات التي ضربت أوروبا بعد نشأة البروتستانتية والطوائف الدينية، جنبا إلى جنب مع بداية الاستكشاف الجغرافي ثم المرحلة التجارية قبل الثورة الصناعية.
يعتبر تود أن تبخر البروتستانتية وأخلاقها وآليات عملها التاريخية التي أدت لنجاح العالم الأنكلو-أميركي، الولايات المتحدة وبريطانيا والمناطق البروتستانتية في جميع أنحاء العالم، قد يؤدي إلى فقدان العوامل التي شكلت قوة الدفع البروتستانتية لدى الغرب وخصوصيته، حيث أن التغيير الرئيسي هو الديناميات الدينية.
"أعلى مراحل الرأسمالية"
غالبًا ما يتجاهل المؤرخون الغربيون العلاقة الوثيقة والجدلية بين الظاهرة الرأسمالية والإمبريالية؛ إذ تعتبر الرأسمالية بطبيعتها منظومة استغلالية ومتغولة، وتحكمها منطقية تسيطر على الموارد الطبيعية والبشرية، والأسواق والدول الحديثة والآليات الديمقراطية والتشريعية.
على الرغم من أن المقولة لينين: "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" تظهر إفتراضًا بأن الرأسمالية تملك عالمها الخاص المركب والآليات التي تحركها وتفاعلاتها التاريخية وأنماط سيرورة وصيرورتها وربما لاهوتها الخاص، فإن الخبرة التاريخية على قيام الظاهرة الرأسمالية، وبالأخص الأنكلوسكسونية، لا تبرر تصنيف هذه الظاهرة بأنها معقدة بنية تقريبًا إلى اللاهوتية.
فلولا حركة الاكتشاف الجغرافية والاستيطان الأوروبي الاستبدالي التي رافقها، واستغلال الملايين من العبيد الذين أُسرتهم الصدفة إلى المستعمرات الأوروبية في أفريقيا والكاريبي وأمريكا لزراعة المحاصيل النقدية من القطن والتبغ وقصب السكر، وتعدين الذهب، والفضة والفحم الحجري وخدمة حروب الإبادة التوسعية في المستعمرات، لم يكن بالإمكان للأنكلوسكسون وأنصارهم بتراكم الثروات التي سمحت بظهور الثورة الصناعية كقاعدة أساسية للرأسمالية.
لذلك، الرأسمالية هي نتيجة لمجموعة متنوعة من المراحل وأنماط نهب الثروة من أطراف العالم عن طريق المستعمرات الأوروبية في آسيا وأفريقيا ومشاريع الاستيطان في الأمريكتين إلى مراكز الإمبراطوريات.الأوروبيات.
الفائض القيمي
إن شركة الهند الشرقية الإنجليزية، النجم الأكثر تألقًا بين جيرانها الأوروبيين (الإسبان والبرتغاليين والهولنديين والفرنسيين) في مرحلة التجارة، سيطرت على جيوش من المرتزقة، استخدمتهم في حروب عدوانية ضد شعوب وممالك شبه القارة الهندية في القرن الـ18، واستولت على مستعمرات أخرى لخدمة أهدافها الاستعمارية (النهب والاستغلال).
هيكل وتنظيم هذه الشركة أصبح نموذجًا لتنظيمات وهياكل المؤسسات والمنظمات الأوروبية في مجالات متنوعة من البيروقراطية الحكومية إلى الأحزاب السياسية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية. عبارات مثل "الجمعية العامة" و"اللجنة المركزية" و"المكتب السياسي" و"الأمين العام"، لها جذورها في تنظيمات شركة الهند الشرقية الإنجليزية.
في السياق الثقافي الثقافي، ينسب "الزائد القيمي" إلى التحليل الماركسي وتبنته الحزب الشيوعي (الموسكوفي) في الدول العربية منذ عقود. يُفترض أن هذا الزائد حدث تاريخيًا في الحقول والمناجم والمصانع الأوروبية (مثل إنجلترا وأسكتلندا وويلز)، وأدى تراكم هذا الزائد إلى تجميع ثروات هائلة لصالح الإقطاعيين أو رجال الأعمال الصناعيين أو رأس المال الأوروبي. هذا الزائد تجاوز فعليًا القيمة الأخرى أو بالأحرى الزائد البشري والدم والجهد البشري الذي نهب من عبيد وعمال السخرة والكادحين في مجالات الإنتاج الاستغلالي في أوروبا وأفريقيا وآسيا ومستعمرات العالم الجديد، مثل مشاريع بناء سكك حديدية من الشرق إلى الغرب في أميركا، ومشروعات نفاق المدينة في لندن ونيويورك.
لذلك، ربما كان من الأنسب أن نعكس قول زعيم الثورة البلشفية، فلاديمير لينين، حول العلاقة بين الرأسمالية والاستعمار الإمبريالي لتصبح "الرأسمالية نتيجة الاستعمار والإمبريالية" بدلاً من "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".
- أستاذ جامعي وباحث في التاريخ والاجتماع.