مصيبة في جدران فيينا.. تسرّع قلب العظماء وغدر الخاين فأُهزم العثمانيون
<
div class=”wysiwyg wysiwyg–all-content css-1vkfgk0″ aria-live=”polite” aria-atomic=”true”>
عاينت فاقتُ وفاة السلطان سليمان القانوني في عام 1566م معلَماً محورياً في سجلّ الدولة العثمانية الّتي وصلت خلال عهده ذروة عظمتها وعصرها الذهبي.
اجتاح التحوّل الكبير هذه الدولة في القرن الـ17، بدأت بالتراجع وتوالت تُراقب وصول العدو الأوروبي إلى أرض الأناضول، متخلّلة بمعارك آزمير وصقاريا عام 1921م خلال حروب الاستقلال التركية التي اندلعت بعد الحرب الكبرى الأولى.
الإنكشارية
انتابت الدولة العثمانية في القرن الـ17 موجات كبيرة من الاضطرابات، وشهد دور الأمهات السلاطين تصاعدًا في تدبير شؤون الداخل والخارج.
وراء ذلك، انبرى جنود الإنكشاريين بالتمرّد، هدّدوا السلاطين ورؤساء الوزراء ووصلت الأمور بِهم إلى عزل وقتل السلاطين، بمن فيهم السلطان الفتى عثمان الثاني الذي أراد الخروج في حجة 1031هـ/1622م مستغلاً هذه الرحلة للقضاء على الإنكشارية.
ولكن بعد مقتل هذا السلطان الشاب، لم تهدأ الأوضاع الداخلية والخارجية للدولة العثمانية، واستغلّ أعداؤُها الذين تحالفوا عليها -مثل الروس والنمساويين والبنادقة والمجر والألمان والبولنديين والطليان وغيرهم- هذه الاضطرابات لَمُهاجَمَة ولايات الدولة العثمانية.
واستمرّت هذه الاضطرابات حتى جُلِسَ على عرش السلطنة الصغير محمد الرابع (1642-1693م) حيث نصّبته الإنكشارية سلطانًا وهو لا يتجاوز الخامسة من عمره عام 1647م، بعدما أطاحوا بوالده السلطان إبراهيم الأول الذي أصبح منزّهًا من ثورات وعصيان جنود الإنكشاريين، الذين كانوا أحد أهم وأعظم فصول جيشه، غير أنَّه واجه مصيراً مشابهاً بالاستسلام والانقياد والإبعاد.
السلطانة خديجة تورخان
كان السلطان محمد الرابع طفلًا صغيرًا، ولهذا السبب امتلكت جدته السلطانة كُوسم للحكم، حتى نجحت أمه السلطانة خديجة تورخان في القضاء عليها وقتلها عام 1651.
وكانت السلطانة تورخان شابة صغيرة، إلا أنَّها اشتهرت بالحِيلة والذكاء، ونجحت بعد خمس سنوات بالتعاون مع الشخصيات الموثوقة داخل القصر في تعيين رئيس للوزراء (صدر أعظم) موهوبًا في قيادة شؤون الدولة، وإخماد الثورات والمؤامرات الداخلية، وردّع أعداء الدولة في الخارج.
وحظيت بتأييدها الكامل في كوبريللي محمد باشا الألباني الأصل، تميز بمهارات في الشؤون السياسية الخارجية والعمليات العسكرية، واستقنى معرفته بالتحديات الداخلية للدولة العثمانية.
وبرعت السلطانة تورخان في توجيه مرحلة “الكوبريللية” التي شهدت تغييرات جذرية في سجلّ الدولة العثمانية خلال هذه الفترة.
نجح كوبريللي باشا في السيطرة بتصميم وسرعة مذهليين على ثورات الإنكشارية، وفرض قبضة من حديد على كلَّ من تجسست على الشؤون المالية أو السياسية للدولة من شخصيات عسكريّة، وأعادهم إلى ساحة الطاعة، مركّزا على مهامهم العسكرية فقط.
وفهم بأنَّ تحقيق هذه المهام يتضمن أيضًا الوقوف بوجه أعداء الدولة الذين استغلوا التداخلات الداخلية في الدولة العثمانية خلال العقود السابقة للاقتحام عروشها وولاياتها، وبناء حصون عسكرية تكبح جنونهم وتحافظ على حدود تخصصاتهم العسكرية فقط.
قتال البنادقة
بدأ بالاهتمام بتنظيف مضيق الدردنيل من البنادقة الذين نالوا من جزرٍ كثيرة، ونجح بعد حروب وصراعات مع النمساويين في حل أزمة ترانسلفانيا (في رومانيا الحالية) التي كانت مصدر جدالٍ واضطرابات.
بما بين البلدين.
وجد نفسه ابنه أحمد فاضل باشا وهو الحاكم الأعظم بعد وفاته، وهو الأصغر في تاريخ الدولة العثمانية، حيث كان في عمر 26 عامًا.
أشاد المؤرخون، مثل روبرير مانتران في كتابه “سجل الدولة العثمانية”، بذكائه وحنكته وخبرته في الشؤون السياسية الداخلية والخارجية، وإدارة الجيش.
وبفضل تلك القدرات، نجح كابيه في تحقيق انتصارات كبيرة مثل فتح جزيرة كريت وإجبار ملك بولندا بعد سلسلة من المعارك الناجحة على توقيع “اتفاق زورافنو” في 27 أكتوبر 1676.
أسفر هذا الاتفاق عن تحويل جزء كبير من أوكرانيا وإقليم بودوليا إلى قبضة العثمانيين، ولكن بعد بضعة أيام في بداية نوفمبر من ذلك العام، توفي أحمد فاضل باشا عن عمر يناهز 40 عامًا.
قره مصطفى باشا
في ذلك الوقت، وصل السلطان محمد الرابع إلى سن الرشد وبدأ يشارك بشكل مباشر في إدارة الدولة.
أعجبه النجاح الباهر الذي حققه آل كوبريللي، لذا في نفس العام الذي توفي فيه أحمد فاضل باشا، عين صهره مرزيفونللي قره مصطفى باشا.
لم يكن اختيار مرزيفونللي قره مصطفى باشا عشوائيًا، بل تم اختياره بعد أن شغل مناصب إدارية هامة ومساعدة للحاكم الأعظم تحت قيادة كوبريللي باشا، وأثبت كفاءته، لذا اختاره السلطان محمد الرابع لهذا المنصب.
تحت إشراف السلطان محمد الرابع، نجح قره مصطفى باشا في هزيمة الروس أمام قلعة جهرين في أوكرانيا على بُعد 230 كيلومترًا جنوب شرق العاصمة الحالية كييف.
وفي عام 1681، تم توقيع معاهدة أدرنة بين العثمانيين والروس لتقسيم أوكرانيا وفقًا لرؤية العثمانيين، حيث انخرط الروس في منطقة واسعة في شمال أوكرانيا وأُجبروا على دفع الجزية السنوية لتتار القرم المسلمين الذين كانوا حكام أوكرانيا وأعلنوا ولائهم للدولة العثمانية آنذاك.
فزع في أوروبا
يرى المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه “سجل الدولة العثمانية” أن هذه الانتصارات العثمانية الكبرى أثارت قلقًا كبيرًا في أوروبا، خاصة بعد استيلاء القائد العثماني أوزون إبراهيم باشا على كامل سلوفاكيا وسقوط قلعة فومور، والاستيلاء على 28 قلعة في تلك المنطقة داخل حدودها.
لم تكتفي العثمانيين بذلك، بل استغلوا تفاقم الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت لدعم البروتستانت ضد آل هابسبورغ النمساويين، مما أثار غضب الألمان والنمساويين الذين طالبوا بإعادة ترانسلفانيا إلى أوروبا، واستعادة سلوفاكيا كاملة، وتقليص نفوذ العثمانيين في المجر.
سخط صهر الحاكم الأعظم قره مصطفى باشا على السياسة الألمانية، فقرر شن ضربة قاصمة على النمساويين والألمان ليبعدهم عن فكرة التدخل في أراضي العثمانيين مستقبلا، وكان الهدف الأساسي الاستيلاء على فيينا، عاصمة النمسا.
غزو فيينا
اختار قره باشا التوجه نحو فيينا في يوليو 1683 من المجر دون موافقة السلطان محمد الرابع الذي كان يروج للاحتفاظ بقلعتي يانق وقومورن فقط بالقرب من الحدود الألمانية.
لإثارتهم والاعداد للمستقبل، بعد ذلك في العام اللاحق يُمكن التوجه نحو مدينة فيينا، كما يشير مؤرخ تركي إلى ذلك.
وكان عدد القوات العثمانية 160 ألف جندي، وتعاونوا مع فصائل تتار القرم تحت قيادة خان مراد كيراي – الذي كان غاضبًا ومندفعًا ضد قره مصطفى باشا بسبب سوء تصرفه ومعاملته كما سنرى قريباً – ووصلوا إلى حدود العاصمة فيينا.
وكانت رؤية قره مصطفى باشا ضرورية لشن ضربة كبيرة في قلب أوروبا بمعية هذا العدد الهائل من الجيش العثماني بسبب تسارع الاتفاقيات بين القوى الأوروبية مثل الإنجليز والفرنسيين والألمان والنمساويين والروس والبنادقة، وكان من الضروري ردعهم قبل التحالف ضد الامبراطورية العثمانية، وغزو الدولة.
خطة المعركة
في 14 يوليو/تموز 1683 بدأت الحصارات العثمانية لفيينا، وهذا هو الحصار الثاني في تاريخ العلاقات العثمانية النمساوية، حيث تم الحصار الأول لفيينا من قبل السلطان سليمان القانوني في عام 1529 واستمر لعدة أسابيع. وبعد ذلك اضطر السلطان لرفع الحصار بسبب اقتراب فصل الشتاء وبعد المسافة البعيدة عن إسطنبول، وخوفاً من التدعيات الأوروبية الفرنسية والألبانية ضده.
وفي هذا الحصار الثاني بعد مرور 154 عامًا، واستمرت لمدة شهرين متتاليين، تمكن قره مصطفى باشا من الاستيلاء على جميع حصون النمسا الأمامية وهدم بعض أسوار فيينا، وكادت المدينة تسقط بسبب نقص الإمدادات وضربات المدفعية العثمانية الثقيلة التي كانت تضربها على مدار الساعة.
كانت الخطة العثمانية تبدأ بحصار محاصر للمدينة بـ60 ألف مقاتل، ثم بحصار أوسع لغلق الطرق أمام المجموعات الأوروبية القادمة لإنحاء المدينة وإمدادها، ثم وضع جيش تتار القرم بقيادة خان القرم مراد كيراي على جسر يُدعى الدونة وتفجيره إذا اقتربوا ومنع المرور للقوات الأوروبية عليه.
لكن خان القرم كان مستاءً من قره مصطفى باشا الصدر الأعظم، وكان يكن له الغضب في قلبه نحوه بسبب معاملته له كقائد صغير، أو كما يُقول المؤرخ أوزتونا “كان يظن أن فشل الصدر الأعظم في فيينا سيُزيحه من السلطة، دون أن يعلم أن خسارة من هذا النوع ستغير مجرى التاريخ العالمي”.
وطيلة 8 أسابيع كادت المدينة تسقط، وبقي فقط حوالي 5 آلاف شخص، حينها أرسلت البابوية في روما نداء تستنجد فيه إلى جميع ملوك وأباطرة أوروبا بإنقاذ فيينا، وإلا سيصل العثمانيون إلى أراضيهم.
خيانة الخان
في كتاب “سيرة الدولة العلية العثمانية” يصرح المؤرخ المصري محمد فريد “عندما بقيت الهجوم الأخير الذي يكمل الفتح، قدم سوبيسكي ملك بولنيا وساكس مع البافاريين بجيوشهم بناء على طلب البابا إلى حثهم، وحثهم على القتال ضد المسلمين حتى أججوا في قلوبهم شعلة العنصرية الدينية”.
ولم يكن لهذا التحالف الأوروبي تأثير كبير في مواجهة الخطة التي وضعها قره مصطفى باشا إذا ما امتثل خان القرم للأوامر الصادرة له بمواجهة الأعداء أو تفجير الجسر إذا اقتربوا، ولكن هبط خان القرم في الغدر، وكان يبحث عن هزيمة ليتخلص من قره مصطفى باشا ويبعده عن القمة العظمى.
وكشفت الوثائق المحفوظة في الأرشيف البولندي أن خيانة مراد كيراي كانت خطة مدبرة بدقة، تم التخطيط لها بشكل مسبق بقصد وعمد، إذ صرح لملك بولندا سوبيسكي في رسالة سرية بأنه سينسحب بدون مقاومة أو قتال، وهذا هو ما دفع سوبيسكي إلى التقدم بثقة واطمئنان.
عقدة الجسر
<
p style=”direction:rtl”>ويشير المؤرخ العثماني ومسؤول المخازن العثمانية المشارك في الحصار فِندقلي محمد آغا إلى أن “كان حضرة الخان”