كتبوا عن حرق الوثنيين الروس لموتاهم و”أكل الزنج للبشر” وحجبوا تحريم الهنود للبقر.. كيف درَّس الرحَّال المسلمون “الآخر”؟
قام المسافرون المسلمون بزيارة جميع سواحل المحيط الهندي (“المحيط الشرقي الكبير” كما وصفه ابن خُردَاذَبَه الذي توفي عام 893م) من شرق أفريقيا وصولاً إلى جزائر سيلا (وقد تكون شبه جزيرة كوريا)؛ وقد زحفوا نحو بلاد الترك شرقاً وروسيا شمالاً وصولاً حتى سيبيريا (“أرض الظلمة” كما وصفها ابن بطوطة الذي توفي عام 1377م).
وقاموا بزيارة أوروبا التي كانوا يسمونها ‘أَوْرَفِّي‘، ووصفوا سكانها من الجلالقة والفرنجة والألمان والبريطانيين والنمساويين والمجريين. وربما لم يصلوا إلى أقصى شمال القارة ولكن وُجدت كميات كبيرة من عُملاتهم ونقودهم في السويد وفنلندا والنرويج وآيسلندا وغيرها.
وقد عرفوا أفريقيا -التي سموها ‘لوبية‘- شرقها وغربها ووسطها، وقد رسم بعض الخرائطين الخاصين بهم تفاصيل جنوب القارة؛ حتى بعضهم قاموا بعبور “بحر الظلمات” (= المحيط الأطلسي) غرباً نحو المجهول، مثل “الفتية المغرَّرون” الذي ذكرهم المسعودي في كتابه ‘مروج الذهب‘، حيث وصلوا إلى جزر الكناري غرب أفريقيا.
وحسب ما ذكره ابن فضل الله العمري (ت 1348م) في كتابه ‘مسالك الأبصار‘، فإن سلطان مالي مَنْسا أبو بكر الثاني (ت 1312م) قرر التخلي عن الحكم والانطلاق في رحلة عبر المحيط الأطلسي بألفي سفينة بحثاً عن المجهول غرباً ولم يعُد، فهل وصل؟ أم توجه إلى شخص آخر؟ وهذا الأمر يثير العديد من الجدالات بين المؤرخين المسلمين والغربيين.
تناول الأستشراق الغربي الكثير من الانتقادات بخصوص منهجه وأدواته ودوره السياسي، ورغم ذلك فإنه واجه نقداً موجهاً إليه،
وبما يتعلق بهذا الأمر: إلى أي حد كانت أخطاء الاستشراق خاصة بغرب أوروبا؟ هل كل أمة تسعى للسيطرة تميل نحو تحديد ذاتها وتقليل من قيمة الآخر؟ هل تسعى
كل أمة للاستفادة من معارفها عن الشعوب الأخرى لتحقيق أهدافها السياسية والتجارية والدينية؟
ليس هدفي تقديم إجابات شاملة عن هذه الأسئلة، ولكني أعتزم تسليط الضوء عليها دون تقديم حجج محددة. يوجد سببان وراء هذا: عدم وجود منهج واضح بين الرحالة والمؤرخين في موضوعات الانصاف والتحيز؛ وأيضاً، المؤرخين علمونا بعدم صحة مقارنة العصور المختلفة بسبب تباين الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية، وطبيعة الدول وأهدافها؛ ولذلك، فإذا كان لا بد من المقارنة يجب أن تتم بين أشخاص عاشوا في نفس الفترة.
من الواضح أن رسالة القرآن العالمية وتوجيهه للتعارف بين الشعوب والاستكشاف في الأرض ساهما في جعل ثقافة المسلمين متسامحة ومفتوحة على التعارف والتبادل الثقافي. فالمسلمون لم يعتبروا الأرض مملوكًا لهم والناس جنسهم المميز، أو الملوك رؤساؤهم، بل كانوا مستعدين لاكتشاف العالم وبناء علاقات مع الآخرين، سواءً كان ذلك عبر التجارة أو النقاشات الدينية أو المزيد.
العقل هو نورهم، وفي المعرفة هم متميزون. ينبغي لهم أن يرتفعوا في مستوى التفكير. لا يعتقدون أن هناك دول غير بلادهم، وأن هناك أشخاص غير سكانها، وأن للبشر غيرهم خبرة تفوق خبرتهم، حتى إذا تحدث لهم بعالم أو خبير في إقليمي خراسان أو فارس، تجاهلوا المعلومات ولم يصدقوه”؛ وفقًا لما ذكره البيروني في كتابه ‘تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة‘، بل رأوا في الحكمة غنىً يجذبهم حيثما وجدوها، كانوا أحق بها.
ولكن عامل آخر أسهم في هذا الانفتاح بشكل كبير، وهو التجارة التي كانت معروفة للعرب منذ القدم عبر مسارات التجارة المتصلة بين اليمن والحبشة، وبين سواحل الخليج وبلاد الهند والصين، وعبر مسارات التجارة القرشية بين اليمن والشام. تكرس هذه العلاقات مع انتشار الفتوحات الإسلامية التي ضمت المنطقة الممتدة بين نهري النيل وجيحون، قلب العالم القديم، ومعبر التجارة الإستراتيجي بين الشرق والغرب والشمال والجنوب.
وهكذا كانت بغداد ومدن أخرى بالعراق نقطة تلاقٍ لأسواق العالم، تجذب التجار من أقاصي الأرض. استمعوا إلى وصف اليعقوبي -في نهاية القرن الثالث- لبغداد حيث يقول: “مدينة تضم ما لا تضمه مدينة أخرى… تجتمع فيها التجارة برا وبحرا بأسهل السبل، حتى يمتلأ كل محل بالبضائع التي تحملها التجار من الشرق والغرب، من داخل الأرض الإسلامية وخارجها. يحملون إليها الثروات من الهند والصين واليونان والترك والفل والسودان وغيرها، حتى تكون لديها أكثر من تجارة كل بلاد تُصدِر عليها، وتكون مع ذلك الأكثر ازدهارًا، حتى يبدو وكأنها تجمع كل نعم الأرض وتضم فيها كنوز الحياة ويتمم فيها بركات العالم”.
إن التجارة أدت إلى تحسين المدن الإسلامية بالبضائع والعلوم في نفس الوقت، مما جعلها مُدنًا عالمية تستقبل العالم بأسره، تمامًا كما كانت مدينة خانفو التجارية في الصين؛ وفقًا لما تحدث به المسعودي وغيره. وليس من العجب أن يروي لنا الجاحظ (ت 255هـ/869م) عن أحداث الأمم والشعوب، ويصف ظروف البلدان (وكان له رسالة في ذلك) وهو الذي ربما لم يتجاوز المنطقة الخصبة سوى نادرًا.
أدت هذه العلاقات التجارية إلى رواج الحياة الاجتماعية النابضة -كما يشرح المستشرق الأميركي مارشال هودجسون (ت 1388هـ/1968م) في كتابه ‘مغامرة الإسلام‘- إذ شعر المسلمون بأنهم مواطنون عالميون، حيث كانت كل الأرض مكانًا لهم ليعبروا عن عقائدهم، ومن الواضح أن مثالًا على ذلك ما تحدث عنه الرحالة حين التقوا برعايا بلدهم في البلاد البعيدة، فقد التقى ابن فضلان في بلاد الصقالبة بخياط من بغداد، والتقى ابن بطوطة في الصين بفقيه من سبتة، واللافت هو أنه بعد سنوات التقى أخ الفقيه ذلك في بلاد السودان بوسط أفريقيا.
سأركز في هذا المقال على تتبع ثلاثة أمثلة من كتب الرحالة والمؤرخين، وسأشرح منهجهم في سرد قصص الآخرين ونقل أحوالهم: ابن فضلان (رحلته كانت في عامي 309-310هـ/1309-1310م ولا يعرف تاريخ وفاته) وأبو الحسن المسعودي (ت 346هـ/957م)، وأبو الريحاني البيروني (ت 440هـ/1049م). ولنبدأ مع الفقيه بغداد الذي بقيت لحيته متجمدة في بلاد الصقالبة.
رحلة الفقيه
ككثير من الرحالة والجغرافيين -الذين في العادة ينتمون إلى الطبقات المتوسطة- لا يُعرف تاريخ ميلاد ابن فضلان، وذكر ياقوت الحموي -في ‘معجم البلدان‘- أنه كان مولى للقائد العسكري العباسي محمد بن سليمان الحنيفي (ت 304هـ/916م)، وعرفه بأحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان، رسول الخليفة المقتدر العباسي (ت 320هـ/932م).
أفضل مصدر عنه هو رحلته التي يشير إليها، حيث أن اسمه كان “محمد”، وكان عالمًا بأحكام الشريعة وله ثقافة أدبية جيدة، وكان لغته جميلة وسلسة، دقيق الملاحظة وحاذقًا، جريئًا في النقد وتصحيح الأخطاء، ومتأصلا في الحضارة وآدابها.
غادر بغداد في صفر من عام 309هـ/921م -في عهد الخليفة المقتدر- لغرض معين أشار إليه في بداية رسالته: “عندما كان أين.
زرازير وضفادع
بلغ كتاب الرحالة بن مايستر ألمارسيليس الملك المقبول إلى السلطان العظيم يطلب منه الإذن بالسفر إلى من يدركه في الدين ويشرح له أحكام الإسلام، وينشئ له مسجداً وينصب له منبراً ليقام عليه الدعوة له في أرضه وإمبراطوريته بأكملها، ويطلب منه بناء حصن يحميه من الحكام المتنازعين معه (= مملكة يهود خزر)، فاستجاب لما طلب”.
دخل الإسلام إلى بلاد البلغار والصقالبة قبل هذا التاريخ، و‘بلاد البلغار‘ المقصودة هنا مملكتهم القديمة، والجدال في تحديدها قائم ولكنّها -حسب باحث ‘نصاب ابن فضلان‘ حكمة الدهان الشامل (ت 1391هـ/1971م)- توجد إلى الشمال الشرقي لبحر قزوين؛ بينما ‘الصقالبة‘ مصطلح عام يشمل لديه شعوب السلاف والجرمان وسكان شرق أوروبا، وكانت تستخدم أيضاً لوصف بعض القبائل التركية الساكنة شرق بحر قزوين وخصوصاً حوض نهر الفولغا (= نهر أتل)، وكانت إمبراطوريتهم ضمن ما يُدرك اليوم بجمهورية تترستان الروسية. فالمؤرخ يقول في ‘حدائق الجوهر‘- “إن في بلاد الخزر.. نسل من الصقالبة والروم…، وهذا الطائفة من الصقالبة.. يتصلون بالشرق”. وابن فضلان لم يثبت وصوله إلى منطقة شرقي أوروبا حتى يلاقي صقالبتها.
ويقول الرحالة ابن ابن سعيد الأصفهاني (ت نحو 300هـ/912م) إنّ أغلب البلغار والصقالبة اعتنقوا الإسلام، ولكنّ الإسلام كان -في فترته- لا يزال ضعيف المردود والحضور في هذه الشعوب، ولم يثبت في أخلاقهم وعاداتهم. ونجد دلائل على ذلك لدى ابن فضلان حين يذكر كثيراً ما يُنكر عليهم في تقاليد “الدفن” وجهلهم بالميراثات، وأنّهم “يتوضأون عراةً” ولا يستترون، و”إن كانوا لا يزنون” بل ويعاقبون الزناة والسراق بعقوبات قاسية.
ونعرف من الرحالة أبي حامد الغرناطي (ت 565هـ/1170م) -الذي جال حول حوض نهر الفولغا لنحو من ثلاثين سنة وتاجر بينهم وتزوج منهم- أنّ الإسلام كان قد انتشر واستقرّ هناك، وأنّ الجوامع كانت قد زادت في فترته. كما يذكر المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- أن وفداً منهم قد جاء للحجّ، ونزل في بغداد عام 433هـ/1043م.
كانت فتحت بين هيئة غرباء، حتى وإن كانوا “ليسوا ملمين بالزنا” والعقوبة للزاني هي تجزئته إلى نصفين!
في حواره عن ‘بلاد الباشقرد’ ذكر ابن فضلان أنهم “من قبيلة من الأتراك تُعرف بالباشقرد ولذلك حذرناهم بشدة، بسبب شرورهم وقذارتهم وجرأتهم الزائدة في القتل، حسب روايته فإن الرجل يلقي الرجل فيغرز سيفه فيه ثم يتركه، وهم يحلقون لحاهم ويتغذون على قملهم”.
تفاصيل موجزة
بعيداً عن انتقادات القيم والرفض؛ ذكر ابن فضلان بدقة تحليلاته الإثنوغرافية التي تعكس خصائص الشعوب وتقاليدها ومعتقداتها، مستعرضاً لنا سياسات صحية اعتمدها تلك القبائل، مثل الحجر الصحي -عندما رزقت بوباء معين- وعن اعتقادات بعضهم الوثنية في عبادة اثني عشر إلهاً للظواهر الطبيعية، وعن احترام بعض الترك للحيوانات وتعظيم الصقالبة لنباح الكلاب؛ وعن عادة الصقالبة في تناول طعامهم بشكل فردي، حيث يتناول كل شخص طعامه بمكان مستقل.
وكشف عن عادات دفن الشعوب المختلفة، موضحاً بالتفصيل كيفية دفن الروس لأحد زعمائه، وكيف تطوع البعض من أتباعه للموت معه، وكيف تم حرق جثته، وماذا كانوا يتناولون ويشربون ويقومون به خلال تلك الطقوس. ويظل وصف ابن فضلان هو الأكثر أهمية في وصف طقوس الموت لدى الروس.
أبان ابن فضلان لنا أيضاً أن عادة رفع القبعة كانت موجودة في بلاد الصقالبة من القرن العاشر الميلادي، حيث كان عند مرور الملك في السوق “يقوم الجميع ويخلعون قلنسوتهم عن رؤوسهم ويضعونها تحت إبطيهم، وعندما يمر يرجعون قبعاتهم إلى رؤوسهم”، وكذلك عند دخولهم على الملك. وقد نفى ما زعمته القولة الشهيرة بأن عادة رفع القبعة تعود إلى العصور الوسطى، عندما كان الفارس الأوروبي يزيل خوذته أمام السيدات أو الملوك كرمز لثقته بحمايتهم، في حين كانت هذه القبائل وثنية وليست مسيحية قبل اعتناق الإسلام. ويحتاج الأمر إلى دراسة أعمق للوصول إلى نتائج دقيقة في هذا الشأن.
من الطرائف المذكورة بين الصقالبة، أن رجلاً يُدعى “طالوت” أسلم بسببه، فأطلق عليه اسم “محمد” ومن ثم أسلمت زوجته وأطفاله وطلب الرجل منه تسمية جميعهم باسم “محمد”! كما زار ابن فضلان -خلال رحلته- مملكة الخزر، حيث شرح لنا كيفية تداول السلطة فيهم، حيث إذا حكم الملك أكثر من أربعين عامًا، كانوا يقتلونه لأنه “قد تناقص عقله واضطربت أفكاره”. وعلى الرغم من أن أربعين عامًا كثيرة، إلا أنهم وضعوا حدًا للاستمرارية في الحكم!
كان ابن فضلان يُعتبر مثالاً بارزًا لطبيعة الرحالة ومنهجهم، حيث كان يتميز منهجهم بالوصف الدقيق وصدق الرواية -قدر الإمكان- دون ممارسة النقد في الأخبار المذكورة، سواء من خلال مقارنتها بالأنباء الأخرى أو عرضها على عقلية (= العادات السائدة)، مما يتيح ترويج الخرافات والعجائب بدون تفسير أو استدلال، ويرتكز في قراراته على الانطباعات الشخصية -كثيرًا ما تكون متسرعة- مما يثير استياءه من ما يجد غريبًا، ويظهر المؤثرات الخارجية التي تخالف أخلاقهم وتقاليدهم، وتشوّه ما يتعلق بأخلاقهم.
قفزة معرفية
جاءت
في القرن الرابع، الذي شهد بدايته تنظيم رحلة ابن فضلان وربما كتابة رسالته حولها، كان هناك طبقة من المؤلفين الموسوعيين الذين قدموا خطوة كبيرة إلى الأمام في منهج دراسة “الآخر”. لم يكون مؤلفو هذه الطبقة، بمن فيهم المسعودي والبيروني، مجرد مسافرين، وكانت أعمالهم موسوعية تشمل مجالات عدة كالفلك والتاريخ والجغرافيا وعلوم المعادن والأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا وعلم الحيوان والنبات، بالإضافة إلى دراسة الأديان بشكل مقارن والسياسة المدنية ومقارنتها بين الأمم المختلفة.
من الممكن أن يكون تصنيف الفرنسي أندريه ميكيل لمجال اشتغالهما (المسعودي والبيروني) باسم “الجغرافيا البشرية” صحيحا، إذ لم تكن هذه الجغرافيا تقتصر على قياس المسافات بين الدول ووصفها، بل وضعت البشر في صلب اهتماماتها وأسلوب دراستها.
سبق لمؤرخ العلوم البلجيكي جورج سارتون أن أدرك -في كتابه ‘مقدمة في تاريخ العلم‘- أهمية العلمية للمسعودي والبيروني؛ إذ سمى النصف الأول من القرن الرابع “عصر المسعودي” والنصف الأول من القرن الخامس “عصر البيروني”.
قبل الخوض في منهج المسعودي والبيروني والتقاءهما وتباينهما فيه، يجب التعريف بإيجاز عنهما. إن منهجهما في سرد القصص عن الآخر قد تأثر بتكوينهما العلمي ومذهبهما الفكري وموقعهما الاقتصادي والسياسي، بالإضافة إلى شخصيتيهما.
فالمسعودي، الذي يُعرف أيضا باسم أبو الحسن علي بن الحسين بن علي، وُلد في إقليم بابل بالعراق وتُوفي في مصر. كان “معتزلا” كما يشير الذهبي و”شيعيا معتزلا” كما يذكر ابن حجر. يبدو أنه تلقى تعليمه من الطبري واستوحى الكثير من منهجه التاريخي منه؛ حيث يقتبس منه في كتابه ‘التنبيه والإشراف‘.
تنوع معرفي
المسعودي كان يتنوع في مؤلفاته من الكلام وأصول الديانة إلى الجغرافيا والفلك. يعتبر كتاب ‘أخبار الزمان‘ من أهم أعماله على الرغم من أن جزءا صغيرا فقط منه وصلنا.
كان المسعودي يتمتع بثراء مالي وكان يسافر بنفقته الخاصة من دون أهداف سياسية، بل كانت هدفه الرئيسي من تأليف كتبه مثل ‘مروج الذهب ومعادن الجوهر‘ هو إثراء العلم والمعرفة. توجّه رحلاته ليشمل بلاد متعددة من فارس إلى الهند والصين وشرق أفريقيا وأذربيجان وأرمينيا وسوريا وفلسطين، واستقر في مصر حيث توفي. كما كان يجيد العديد من اللغات كالعربية والفارسية والهندية والسريانية واليونانية.
يقول المستشرق الروسي ألكساندر فازيليف: “نرى أن المسعودي يستحق لقب هيرودوت العرب، الذي أطلقه عليه كرومر”، استنادا إلى رأي المستشرق النمساوي فون كريمر.
أما البيروني، فُلد في بيرون وتوفي في غزنة، وألّف العديد من الكتب في مجالات متنوعة كالتاريخ والطبّ وعلوم المعادن والفلك. كان متحدثا بعدة لغات منها العربية والسريانية والفارسية والسنسكريتية.
تواصل البيروني مع البلاط الغزنوي وشارك في غزو شمال غرب الهند، ورغم ذلك كان يظل مستقلا في آرائه. كان شهود عصرا في ذلك وفقا للسجلات التاريخية.
– أنّ الحاكم أرادَ أن يكرّمه على تأليفه ‘القانون المسعودي‘ في فلك الفضاء وتوقع الطقس، فأرسل إليه هديةً قيّمة من الفضة! ولكن البيروني رفضها بأسلوب معتذر.
وقد ألقى الموقع السياسي للبيروني بظلاله على كتابه حول الهند ‘تحقيق ما للهند من مقولة‘؛ إذ أشار إلى هدفه من كتابته بأن “الأستاذ” (أبو سهل عبد المنعم بن علي التَّفْليسي المنتقة بعد 423هـ/1033م) حاول توثيق المعرفة من جهتهم (= الهنود) ليكون دعماً لمن يريد تحديهم ومصدراً لمن يتوخى التواصل معهم. ومع ذلك، أبدى: “وطلبت ذلك فقمتُ به بدون تردد تجاه الغير (= مختلف عليه ما لم يقله)، ولم أشعر بالحرج في ذكر أقوالهم ورغم أن صحّتها واضحة وانسابها صعبة لدى أقربائهم، إلا أنها وجدانه وعندما كان يمكن اعتبارهم”.
عند استعراض منهج المسعودي والبيروني؛ يُمكن ملاحظة تداخل النقاط الأساسية بينهما، وتباينها في نقطتين؛ إذ توافقوا فيما يلي:
1- يتفق الاثنان على أنّ هدف كتبهما (خاصة كتاب ‘مروج الذهب‘ للمسعودي، و‘تحقيق ما للهند من مقولة‘ للبيروني) هو تقديم المعلومات والقصص حول “الآخر”، بدون تجاوزه أو حكم على صوابه أو خطأه. يقول المسعودي: “كتابنا هذا كتاب وقائع، ليس كتاب آراء وانتقادات”، ويُكرر هذه الفكرة عدة مرات. ويمدح البيروني منهج “القصة بلا تحيز ولا موافقات”، ويصف كتابه على أنه “ليس … كتاب مجادلات ومناقشات، بقدر ما هو كتاب حكاية يعرض رأي الهند بوضوح”.
وقد أشار المسعودي -وعاش في زمن له جدالات شديدة- إلى بعض هذه الجدالات والردود عليها، ومع ذلك -رغم خبرته- توصل إلى مبدأ أخلاقي ومنهجي مهم، وهو أن “الشخص النبيل والمعروف ينبغي عليه عدم الاستسلام للخمول …؛ لأن مكانة العائلة الكريمة تشجع على اعتزاز بالأعمال …”. وبذلك يبدو أنه ينوي إنهاء نقاش الفخر بالنسب لأنه يدرك أن كلّ أمة تزعم التفوق وتعتقد أنها مميزة به، وهذه معتقدات تتكرر حاليا بين الذين سافروا وتعرفوا وتعاملوا مع الثقافات المختلفة؛ ألم يقول البيروني -أثناء اتهامه للهنود بالانعزال عن الآخرين وجهلهم بالخارج- إنهم “لو سافروا وتواصلوا مع الآخرين لتغيروا رأيهم”.
والأهم من ذلك؛ أن المسعودي -في تطبيقه العملي- كان متفتحًا على حكمة الشعوب بشكل عام، حيث كرّم حكماء فارس (أردشير وكسرى أنوشروان بالتفصيل) ودرس حكمة الهند واليونان، حتى في المواضيع التي تتعارض مع المعتاد للعرب والمسلمين؛ لذا نراه -أيها القارئ العزيز- يعرض حكمة الهنود بعدم احتجاز الرياح في الجوف، وعدم إبطاء إفراجها بسبب الأضرار التي يمكن أن تحدث، ولم يظهر أي معارضة لذلك، بل يظهر اعجابه بحكمتهم!
وفي وصف المسعودي لسكان شرق أفريقيا بأن “بعضهم يأكل بعضاً وفقًا لأسنانهم”، وأنهم “ليس لديهم قانون يحكمون به، بل تقاليدهم وأساليب الحكومة التي يديرون بها شؤون شعبهم”؛ إذ يُشيد بعدلهم السياسي وحرصهم عليه، حيث يعتقدون أن الله “اختارهم ليكونوا حكامًا عادلين، فإذا تخلى الملك عن عدله وتعثر عن الحق قُتل ونزع عنه السلطة”. كما يمدح لغتهم البليغة بقوله: “أفراد سكان شرق أفريقيا لديهم لغة بليغة، وهناك قادة يجيدون الخطاب، يجذب الرجل الزهو لديهم ليخطب لهم عن الخلق، ويحثهم على التقرب من خالقهم، ويحثهم على طاعته ويُنذرهم من عقابه”.
وعلى الرغم من تأكيد المسعودي خلاصات ابن فضلان -دون ذكر اسمه- عندما يصف الروس بأنهم أمة “جاهلة لا تخضع لملك أو قانون”؛ إلا أننا لا نجد -في تاريخهم ومؤلفاته- أي تعابير للاستهجان والاستنكار التي وجدت في كتب ابن فضلان. بل أعرب واضحًا عن تجنّبه لهذا التصرف عندما قال: “من يقرأ كتابي (‘مروج الذهب‘) لا بد أنه لن أحكم فيه على مبدأ أو موقف، ولن أفرض عليه أفكاري الشخصية، ولن أتحدث إلا عن قصص وأحداث الناس، ولن أخضع أي موضوع آخر له”.
2- يتفق المسعودي والبيروني على أهمية تفسير الظواهر وعدم الاكتفاء بالمعرفة السطحية دون توضيح وتحليل؛ فالمسعودي ينقل لنا شهادة جالينوس عن سمات السكان السودانيين، حيث يقول “وذكر جالينوس عن سكان السودان عشر خصائص تجمعها ولا تتواجد في غيرهم: تفلفل الشعر، ورقة الحاجبين، وانتشار المناخير، وكثافة الشفتين، وتحديد الأسنان، ونوعية الجلد، وسودارة العينين، وتشقق الكفين والقدمين، وطول الذكر، …
وكثر السعادة”. ومع ذلك، يربط جالينوس “زيادة السعادة” بتدهور في العقل، وهو ما يرد عليه المسعودي بالبدء في تأسيس مبدأ “السببية” لدى الفيلسوف الكندي (ت 256هـ / 870م)
اعتمد المسعودي لشرح طبائع الشعوب على سببين: تأثير الكواكب والبيئة (المناخ والأرض). وإذا أطلقنا على هذين السببين اليوم تسميتي “السذاجة” وضبطهما ضمن “العلوم الوهمية” بلغة الباحثين في مجالات المعرفة (الإبستمولوجيا)؛ فإن التأكيد على مبدأ التفسير واستخدامه وفق العلوم الحديثة فضيلة علمية مؤكدة. وظل تفسير طبائع الشعوب بالمناخ شائعا حتى وقت قريب قبل تطور علوم الجينات والتحاليل الاقتصادية / الاجتماعية الأكثر تعقيدا ؛ حيث استخدمه الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (ت 1169هـ / 1755م)، واستخدمه قبله صائد الأندلسي (ت 462هـ / 1071م) وابن خلدون (ت 808هـ / 1406م)؛ وعلى الرغم من اختلاف آرائهم في تعيين طبائع الشعوب، فإن البرودة في الشمال تنشئ نشاط العقل وحب المغامرة عند مونتسكيو، بينما تنشئ الجفاف وتقصير الأفهام عند صائد.
ربما كانت أذكى ملاحظات البيروني في تفسير الظواهر وتفسيرها – والتي سبق الباحثون عن علم المجتمعات البشرية (الأنثروبولوجيا) – ما قاله في تفسير تحريم الهنود للبقر وامتناعهم عن ذبحه، حيث اقترح سببًا تدبيريًا أو “سياسيًا” بتعبير البيروني؛ وهو أن البقر هو الحيوان الذي يستخدم في السفر ونقل الأحمال والأثقال، وفي الزراعة بالزراعة… وبالألبان، وما يخرج منها، ثم يتم الاستفادة من فضلاته (= رُثُه)، وحتى في الشتاء من تنفسه؛ فكان حرامًا [لدى الهنود] كما حرمه الحجاج عندما طلب منهم تدمير الأراضي (= منطقة زراعية في العراق)”. وبمعنى آخر، فإن الفوائد الاقتصادية الناجمة عن بقاء البقر أكبر من الفوائد الاقتصادية المترتبة عن ذبحه واستفادته من لحمه. وهذا التفسير هو نفسه الذي يمكن رؤيته في كتاب الأنثروبولوجي الأمريكي مارفن هاريس (ت 1422هـ / 2001م) ‘مقدسات ومحرمات وحروب‘.
اختلاف وتنوع
أما الفروقات المنهجية بينهما فهي اختلافات ضمن إطار الاتفاق، وتتمثل فيما يلي:
1- يتفق الرجلان على أهمية فحص الأخبار وعدم نقل كل ما وصل إليهما، ولكن منهجهما في فحص الأخبار متباين. فالمسعودي يعتمد منهج المحدثين في تقييم الأخبار من خلال سلاستها ومقارنتها بالروايات الأخرى، أما إذا كانت السند صالحة فإن منهج القبول العقلي عنده يعتمد على أن كل ما يدخل ضمن الإمكان المعقول جائز وينتظر رواية داعمة له ليتم قبوله. والإمكان المعقول هنا لا يعدل “العرف السائد” لدى البيروني بل هو الإمكان الحقيقي، معتمدًا على تقسيم الناطقين إلى حالات الوجود: ضروري ومستحيل ومحتمل.
وبناءً على ذلك، يُنقل المسعودي على سبيل المثال أخبارًا مبالغًا في حجم الحوت، وينقل أخبار المعمرين الذين تجاوزوا سن ٣٠٠ عام !! وقد دفعته هذه الأمور لوصفه كما “صاحب.. غرائب وعجائب”. وسنناقش في وقت لاحق بعض المبالغات والأخطاء التي وقع فيها عن الهند ونقارنها بما ذكره البيروني بعد ذلك. وعموماً، كان المسعودي أكثر انتقادًا وتحليلًا في مسائل الجغرافيا منه في مسائل البشر وعاداتهم وتقاليدهم.
أما البيروني، فقد اعتمد أكثر على العقل، حيث رفض “الممتنع عقلاً” وفقًا للعرف، حتى وإن اندرج ضمن “الإمكان المعقول” حسب عرف الناطقين. ولذلك، فقد قام بتفسير سحر الهنود على أنه نوع من التمويه وألعاب الخفة، وليس الكشف عن المستحيل كما يعتقده العوام، وذكر ما اشتهروا به من اصطياد الظباء باللحن حتى يمسكونها بأيديهم، وذكر أن ذلك وما شابهه “خصائص لا لرقي فيها مدخل.. فتساوي في هذا المعنى جميع الأمم”، فهي تقنيات طبيعية يمكن أن تتساوى في تطبيقها جميع الشعوب. وحكايته عن الهند لم يذكر العجائب التي حدث عندما وصفها بزرگ بن شهريار الرامهرمزي (المتوفي في القرن الرابع الهجري) في كتابه ‘عجائب الهند‘؛ لم يرد البيروني إلا بأسلوب “قالوا إن كذا وكذا”.
وكان البيروني أكثر اعتمادًا على التفسير والتحليل من المسعودي وأكثر وضوحًا؛ حيث أبان عن تفسير عبادة الأصنام بنيات الناس للملموس المحدد، وقد يكتفي بالحديث بدون تفسير ويقول “وليس للعقل في هذا مدخل”. وقد تصل تحليلاته إلى استقصاء الفوارق بين النموذج النظري للشعوب وبين التطبيق العملي الخاضع لطبائع البشر وضغوط السياسة.
فالبيروني يفتح الباب الذي فتحه بالعقوبات لدى الهند بقوله: “حالتهم تشبه حالة النصرانية،
إنها منبثقة من العطاء وكره الشر من خلال نبذ العنف تمامًا (= مبدأ ‘الأهيمسا‘/ اللاعنف)… وتمكين الشجاع من خد الآخر، والدعاء للخصم بالخير وترديد الصلوات عليه. إنها بالفعل مدحٌ رفيع، ولكن أهل الأرض ليسوا بحكماء جميعًا، بل أكثرهم جهّال ضالين لا ينعمون بشرف الوقوف إلا بالسيف والعصا، ومنذ إعتنق قسطنطينوس المنصور لم يهدأ كليهما (= السيف والعصا) من الحركة، فلا يمكن إتمام الحكم بدونهم. بنفس الإطروحة، يتبع النقاش عن نشأة التنظيم الحكومي لديهم وكشف عن عقوباتهم على الجرائم.
2- يؤكد المسعودي والبيروني على ضرورة زيارة البلدان التي يدرسونها وعدم الارتكاء فقط على الأخبار المأخوذة عنها من الآخرين. أول موضوع يستعرضه البيروني في كتابه هو الشهادة المباشرة والأخبار والمشاكل التي تصاحب الأخبار، وهكذا في بداية المسعودي ذكره لطلب “بدائع الأمم بالمشاهدة” واكتساب معرفة “خصائص الأقاليم بالاطلاع”. بلوغ المسعودي إلى أنه ينتقد من “انتهز نيران وطنه واكتفى بما تناوله من الأخبار”، ولديه الاعتقاد بأن الجاحظ هو واحد من هؤلاء.
وعلى الرغم من ذلك، المسعودي ينقل أحيانًا أخبار البلدان التي لم يكن قد زارها من أولئك الذين يعتمد على تقريراتهم وتفهمهم من سكانها؛ لذا عندما يُشير إلى “بلاد الواحات” في غرب مصر وثقافة أميرهم يصرح: “رأيت صاحب هذا الرجل (= الأمير) الذي يقيم في الواحات…، وتساءلت عن أخبار بلادهم بكثير، وما احتجت معرفته من خصائص أرضهم، وهكذا فهلكت بالآخرين -خلال جميع الأوقات- ممن لم أصل إلى مواطنهم”.
شمولية وتخصص
وهكذا، يرى المسعودي ضرورة الزيارة مسألة أساسية بالنسبة للرجلين؛ ولكن الاختلاف يكمن في نوعية جودتهما وظروفهما، وقد أثر ذلك بشكل كبير على نوعية أعمالهما؛ حيث يغطي المسعودي مساحات جغرافية واسعة مقابل تخصص البيروني في الهند فقط. صحيح، كان البيروني يقارن بين حكمة الهند وحكمة اليونان، وبين عقائد الهند وعقائد الصوفية والنصارى “لتقارب الأمر بين الجميع في الحلول والتكامل”، إلا أنه كان مكرسًا لدراسة منطقة محددة، مما مكنه من المزيد من العمق والتأصيل في فهم حالتها ولغاتها، وفي استقصاء عقائدها وتحليل سيرتها وتدقيق خرافاتها، مما جعله مرجعًا أكثر دقة وموثوقية في وصف أحوال تلك البلاد.
يتجلى تأثير هذين النهجين المختلفين في المقارنة بين ما أورده المسعودي عن الهند وما افتى بالبيروني عنها؛ فالمسعودي يقول إن “الهند تحرم شرب الكحول وتعاقب جميع الشاربين، ليس اعتمادًا على التدين ولكن كتقدير لعقولهم وحمايتهم من الوقوع في الشهوات وإزالتها عن مقدرتهم العقلية. وإذا صحت التهمة ضد أحد ملوكهم بشربه فإنه يستحق عزله عن العرش، لأنه لا يصلح للإدارة والحكم بعد الاضطراب”. بينما يُوضح البيروني أن حظر الكحول يطبق فقط على الطبقات الأعلى دون الطبقة الدنيا (أي طبقة الشودرا = الطبقة الدنيا) في نظام الطبقات الهندوسي.
ثم، يبالغ المسعودي في توقيت القمار الذي يمارسه أهل الهند، فيقول: “والعديد منهم يعانون إدمانًا على المقامرة عند لعبهم الشطرنج والنرد بالرهان على الملابس والمجوهرات؛ ولا يندفع أحدهم حتى يقوم بمثل هذا الفعل عندما يخسر ويضطر في كل مرة إلى قطع جزء من جسده… حتى في بعض الحالات يقطع إصبعًا من يديه وهو تحت تأثير الخمر… ثم يعود إلى اللعب، وإذا فشلت الأمور يقطع آخر إصبع، وأحيانًا يواصل حتى يفقد كامل أطرافه”!! هذا الخبر يتخطى تصوّر العقل وعادة في التقاليد، ولم يذكره البيروني.
بالإضافة إلى ذلك، يصحح البيروني ما تحدث به أحد الرحالة (السيرافي الذي توفي بعد 237 هـ / 851 م وابن خُرْدَاذَبَه) عن عقوبات الهند وعقوبة الزناة واللصوص؛ حيث يذكر تفاصيل دقيقة عن عقوباتهم قائلا إن من “جرائمهم الكبرى” كان “قتل البقر ثم استهلاك الكحول ثم الزنا…، وفيما يتعلق بالسرقة، فإن عقوبة اللص تكون متناسبة مع فعلته، فقد كانت العقوبة تشمل التشهير والتقسيم (= قطع جسد الجاني نصفين)، وربما تتطلب
تأديب وتغريم، وربما اضطرت للاقتصار على العار والوصم…، وعقوبة الزانيَة هي أن تخرج من منزل الزوج وتُنفى”.
عقبات ونقد
يُشدد على البيروني وعيه بالمنهج وعث المساليك حول القصة عن الآخر، ويعتقدُ أن الدرس الإبستمولوجي الذي قدّمه في العدل لا يزال صالحاً إلى الآن. إذ عَرض -في بداية كتابه- لبيانٍ مفصّل للآفات التي تصاحب الخبر، فذكر أنها: 1- اختلاف النوايا بين المخبرين؛ 2- والانحياز الناتج عن “سيطرة الغرور والصراع بين الشعوب”؛ 3- والخبر الكاذب الذي يهدف به المُخبـِر “تعظيم نوعه”؛ 4- أو الخبر الكاذب عن “طبقة يعملون لبهار أو يكرهونهم لأبسط سبب”؛ 5- أو الخبر الكاذب لإقتراب من الخير والنفع أو تجنب الشرّ؛ 6- والجهل والتقليد لمن سبق؛ 7- ومنها -وانظر حدة الفهم- أن ينحاز المُخبـِر ويستعد بطبيعته “كأنّه مأثور عليه غير قادر على غيره”.
هذه الآفة الأخيرة هي أكثر أنواع التحيزات ضررًا لأنها تأتي من التحيز اللاواعي. وتجاه هذه المسالك؛ يُذكّرنا البيروني ويُذكّر نفسه بأن الصدق “مرض يُرضى لذاته محبوب في حُسنه”، وأن واجب المؤرّخ -بل والمسلم عامةً- هو أن يقول الصدق حتى على نفسه، وأن هذه الدرجة من الصدق لا تصل إلا بالشجاعة، والتي هي في الواقع “استهتار بالموت”!
ثمّ إنّ البيروني يتواضعُ أمام موضوع دراسته، حيث يُذكر العقبات التي تحول دون الفهم الصحيح واستيعاب أحوال الهند: فـ”الناس يختلفون معنا في جميع ما يشترك فيه الشعوب، وأولها اللغة” التي تحتوي على مخارج حروف لا مثيل لها في العربية، وتتقاطع فيها السكونات، وتعقد فيها أنماط التعبير وتتزايد فيها المجازات، وتحكم معانيها سياق العبارة، ويتداخل فيها الاسم الواحد على عدة أسماء. ثم يُفصّل في منهجه في نقل المصطلحات وتعريبها.
وتُعتبَر ثاني هذه العقبات “أنّهم (= الهنود) يتفاوتون معنا في الدين بتفاوت كامل لا يحصل منا على الاعتراف بما لديهم ولا منهم بشيء مما لدينا”؛ و”يتفاوتون معنا في العادات والتقاليد” ويُستنكرون من عادات المسلمين ويُستنكرون “توحيدنا بين الأفراد”، أي رفض التقسيم الطبقي للمجتمع (وهو ما يراه البيروني أنه من أعظم العوائق لدخول الهنود في الإسلام)؛ ويرون غير الهندوس -ويسمونه “مُليج” (= القذر)- نجسًا لا يستأكل ولا يتخالط، ويتعجبون من علومهم وأخبارهم؛ ثم إنّ غزو المسلمين لأرضهم قد زادهم احتياجاً من المسلمين.
وبالإضافة إلى هذه العقبات؛ يُعترف البيروني بعجزه –وعجز كُل باحث- في تحقيق كل ما كُتبه الناس عن أنفسهم ويُعلن مرارًا بأنه ينقل إلينا ما سمعه من علومهم “حتى وقت تحرير هذه الفقرات”، كأنه ينوي الزيادة فيها والتصحيح إن وصله علمٌ جديد؛ ويعترف بأن أحد العقبات هو قراءة أعلامهم “من الخارج”، وهذا فهم دقيق، لأن الفرق كبير بين معرفة التقليد الثقافي من الداخل، ومحاولة فهمه من الخارج، وهو أمر نادراً يدركه المستشرقون!