الحفل الفاسي.. حفل مغربي بطعم خاص
مدينة فاس تعتبر المدينة المغربية العميقة التي تحمل في قلبها بقايا حضارات قديمة؛ من جدران هدمت بسنين، وأبواب تاريخية، وجوامع تأمل، ومدارس متأصلة في المعرفة، فهي تمثل جزءًا جوهريًا من التراث الثقافي المغربي، بينما تعتبر حياتها الاجتماعية مزيجًا يجمع بين التراث العتيق والعادات والتقاليد الناتجة عن الحياة الحديثة.
يعتبر الحفل الفاسي من بين أقدم تقاليد الحياة الحضارية وكان يتم تسميته سابقًا بـ “الشورة”، وكان يُعقد العرس في شهر أغسطس/آب، أما حاليًا فيُقام في جميع أوقات السنة لإحياء الأفراح وتنفيذ المراسم.
يستعرض الفيلم الذي تم إنتاجه بواسطة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “الحفل الفاسي.. براعم المغرب”، عادات وتقاليد سكان مدينة فاس خلال الحفل، بدءًا من المشاهد في أزقة المدينة القديمة وأسواقها الممتلئة بالتجار والمارة، حيث يُظهر بعض البضائع معلقة على أبواب المحال، ويُبين تمسك قاطنيها
البلد بطابعها التراثي.
اختيار الشريك.. بين الماضي والحاضر
قديماً كان الوالدين وكبار السن هم من يختارون شريك الحياة لأبنائهم، حيث كان من الممكن أن تتزوج العروس من شخص لا تعرفه، أو أن يتزوج العريس من فتاة لا يعرفها، وربما حتى لا تلتقي العروس بعريسها إلا في يوم الخطوبة أو حتى يوم الزفاف، أما الآن فقد بدأ العروسان يتمتعان بحق الاختيار في الزواج.
يبدأ الاختيار بالتوافق بين العروسين ثم بين الأسرتين، وفي هذا السياق تظهر في الفيلم أجواء احتفالية حيث يخطب أحد الرجال فتاة يصفها بصاحبة النقاء والعفة لتكون عروساً لابنه.
تختلف طرق التعارف بين العروسين في المدن المغربية، حسب عاداتهم وتقاليدهم، إلا أنها تحترم القيم الدينية؛ حيث يتم التواصل في البداية من خلال الأم أو الأقارب.
يقول رئيس فرقة “عيساوة” مصطفى العمراني: خلال فترة التعارف مع عائلة العروس يأتي العريس بالهدايا، ونحتفل معاً كفرقة، وتستقبلنا أسرة العروس بالتمر والحليب، وهناك من يستقبل العريس بماء الورد، ثم نبدأ بالغناء بأغاني الحب المعروفة باسم “التهاضر”:
جئنا أحباء العريس
قولوا لنا مرحباً
الخيَّاطة.. استعدادات قد تطول عاماً كاملاً!
تقوم أم العروس بتحضير يوم زواج ابنتها من خلال استلام الملابس من قبل الخياطات، وهذه التحضيرات تتطلب وقتاً طويلاً.
تقول الخبيرة في تجهيز العرائس جميلة الفيلالية: هناك من يقوم بالتحضير للزواج لفترة تصل إلى شهر أو ستة أشهر أو حتى سنة، وهذا مرتبط بجودة الخياطة.
وتهتم الخياطات بجودة لباس العروس، وتبرر الخياطة مولاطو ذلك بأن ضيوف الحفل ينتبهون للزي، ولهذا يجب أن يكون فريداً ليتناسب مع الشكل الذي تحلم به العروس في يوم زفافها.
ويساعد الأشخاص المقربون من العروس في تخطي الارتباك الناتج عن الزواج، وتقوم الأم بتجهيز كافة احتياجاتها للزواج ولمنزلها الجديد.
المزيِّنة.. تزيين ونصائح
بعد الانتهاء من مرحلة الخياطة يتم التعاقد مع المزينة “النكافة” لتمكين العروس من اختيار الحلي التي تناسب الثوب الذي اقتنته، ومن ثم تقدم المزيّنة النصائح للعروس، فبالرغم من معرفة أم العروس بالتقاليد المغربية، إلا أن للمزينة خبرة كبيرة في شؤون الزواج.
تتفق العروس مع المزينة على جميع التفاصيل والتنسيقات وفقاً لجدول زمني محدد، ثم تقوم العروس بشراء الزي من النكافة.
تنسّق الأمهات مع المزينة حول الزي وكيفية تناسقه، وتوجه المزينة العروس في اختيار الخيّاطة.
تقول الخبيرة في تجهيز العرائس سناء بن شقرون: قبل عشرين سنة كانت المزينة تصطحب الزي الفاخر الأصيل والمجوهرات الثمينة، كان هناك شيء يسمى “الكبة”، وكان يشتهر في مدينة وزان بالمغرب حيث لا يجلس فيه إلا الشرفاء، وتتغير اختيارات المزينة حسب القدرة والطاقة المادية للعائلة.
هودج من الذهب والفضة
الهودج هو تجهيز يشبه غرفة صغيرة أو صندوق فيه مقعد أو سرير مغطى، تجلس فيه العروس خلال حفل الزفاف، وتختلف تسمياته حسب المنطقة، فهناك من يطلق عليه “المركب”، وآخرون “الضعن”، وأشخاص أخرون يسمونه “الكرمود”، وفي المغرب العربي يسمى “العمارية”.
الهودج يُصنع من الخشب أو الفضة أو غيرهما، وتكون معظم الهوادج باللون الأبيض أو الذهبي، ويُزين الهودج بمجوهرات ثمينة تختلف حسب نوع الثوب سواء كان مزيناً بالعقيق أو غيره. وتتغير أشكال الهودج كل عام بناءً على تنوع أذواق الناس.
الموائد التقليدية.. ثلاث جلسات
من بين مراحل تجهيز حفل الزواج، مرحلة اختيار الموائد الكبيرة التقليدية المعروفة بـ”الطيافر”، حيث يُراعى في الاختيار الأصناف الجديدة في هذه المجالات، وتُعتبر هذه الموائد هدايا تقدمها العريس للعروس.
تقول خبيرة تجهيز العروس كريمة القباج: لدينا موائد من الخشب، وكذلك موائد الحناء التقليدية المعلبة، وهناك تنوع وتقليدية في الأشكال. بالإضافة إلى ذلك، هناك ثلاث جلسات، الأولى تحتوي على الحليب، والثانية تحتوي على ماء الزهر والمسك والعود الفاخر، والثالثة تحتوي على أكياس من الحناء، وقد تُضاف الشوكولاتة إلى جانب مائدة التمر.
الزينة والمجوهرات.. إرث العائلة
تُختار العروس زينتها ومجوهراتها بنفسها أو بمشاركة أمها وفق قدرة العريس على الشراء.
يقول صانع المجوهرات مونيي بوفار: يختار العروسان الزينة وفق أنواعها، حيث تقتني العروس الخواتم والعقود والقلادة، وتُقسم هذه المنتجات إلى نمطين عصري وتقليدي، وتحظى المنتجات الأصيلة باهتمام كبير من العرسان، ويتحكم الزبائن في اختياراتهم الجديدة سواء كانت محلية أو عالمية.
بالإضافة إلى الزينة، هناك أشياء موروثة من البيت الفاسي تتعلق بالزينة الموروثة بين أفراد العائلة.
يقول مُنظِّم الحفلات محمد الشالي: يميز أهل فاس خصوصاً ذوقهم الرفيع حيث تختلف هذه الأذواق من منطقة لأخرى.
المنظم.. يجب أن يكون على علم
يُوفر المنظّم (المسؤول عن التنظيم) كل شيء في حفل الزواج المغربي بما في ذلك القاعة ومنصة الحفل والإضاءة، وإذا لم يواكب المنظم التحديثات في مجال عمله فلن يكون قادراً على تلبية رغبات الزبائن.
يأتي العروسان لمعرفة التجهيزات مثل أغطية الموائد المتنوعة بين المطرزة والعادية.
وهناك موائد مصنوعة من الزجاج، وأخرى تحتوي على حوض مائي، كما هناك تنوع في أنواع الزهور المزينة للمائدة، وأصبح تنوع الزهور يُمثل مدرسة بذاتها.
الحمَّام.. عادة دقيقة في الزوال
بعد إكمال مرحلة التحضير وتجهيز جميع الضروريات اللازمة لحفل الزواج، تتجه العروس إلى الحمَّام، ويُعد هذا الحمام بعناية من قبل العروس بكل تفصيله.
تقول بن شقرون: لا يمكننا القول بأن عادة “الحمام” قد اختفت من الزواج، فهذا الأمر يعتمد على عادات الأسرة، حيث يعتقد البعض أن عادة “الحمام” ضرورية، وبعد ذلك تتوجه العروس إلى الحمام بصحبة الأخوات أو بنات العمات.
تختلف طرق الذهاب إلى الحمام من عائلة إلى أخرى، حيث قد تقوم الأم بتأجير مكان “الحمام”، وقد تذهب العروس للحمام بمصاحبة فنانات أو بدونهن حسب إمكانيات الأسرة، وقبل الذهاب إلى الحمَّام تتم عملية التجهيز المعروفة بـ “التقبيب”، ثم ترتدي العروس لباس تقليدي مغربي يسمى “القفطان”.
الحناء والزهور.. ديكور الحمام
فيما مضى كان يتطلب وجود العديد من أنواع الصابون مثل “الأسود” و”البلدي” إلى جانب الحناء الممزوجة بماء الزهر ضرورياً في الحمام التقليدي لاستحمام العروس.
ويتضمن ديكور الحمام، وضع قنديل تحت الكرسي وترتيب الموائد الكبيرة “الطيافر” التي تحتوي على الزهور والحناء، ويتم وضع الحناء على رأس العروس من قبل امرأة “مزوارة” أي امرأة تزوجت مرة واحدة، وذلك رمزاً للتفاؤل. وبعد استحمام العروس في الحمام، يتم دهن جسدها بالحناء، وفي الزفاف الفاسي يتم تحضير سبع أواني صغيرة “تقباب” ويُرش على العروس من كل منها.
ومن العادات المغربية، أنّ إحدى النساء المقربات للعروس تقوم بغسل الإناء الأخير, ثم يأتي الدور للمحرمة حيث يُغطى رأس العروس بغطاء تقليدي, وفي حال الضرورة يمكن أن تستعير العروس الثياب من الآخرين, وبعد ذلك تعود العروس لمنزل عائلتها لتجد ملابسها التقليدية “القفطان”.
الحفل الزفاف.. ألف ألف هنية وهنية
يقول الفنان زكريا كنانة: تدخل العروس مرفوعة على الهودج “العمارية” وتستقبلها فرقة فلكلورية بذكر الله والصلاة على النبي ﷺ التي تُعتبر بداية خيرية للعروس, ثم ترافقها فرقة تراثية “عيساوة” تتغنى بالأهازيج, ثم يأتي دور الفرقة الموسيقية التي تغني للعروسين “ألف هنية وهنية”.
بعد جلوس العروس في منصتها لمدة عشرين دقيقة, يتم تقديم مشروب العصير والحلوى في ما يُعرف بـ”حفل الشاي”, ومع قرب وقت العشاء يتم تنسيق الجهات الممولة وقائد الفرقة الموسيقية للإعداد لتقديم وجبة العشاء على أنغام موسيقى هادئة تستمر حتى نهاية فقرة العشاء, ثم تعود الفرقة الموسيقية للإيقاعات الصاخبة, وتستمر هذه الإيقاعات حتى قدوم الدورة الفاسية التي تجمع العروس والعريس, وبصعود العريس إلى جانب العروس تظهر جمالية تجعل الدورة الفاسية جميلة.
وينتهي بعبق المسك
ولأن لكل بداية نهاية, تنتهي بداية الحفل التي بدأت بالاستعداد برحيل العروس إلى بيت زوجها, حيث تودّع العروس عائلتها بالصلاة على النبي ﷺ وبالكلمات الطيبة والدعوات للعروس.
كانت العادات والتقاليد تصوّراً ثقافيًا لفرحة الحفل الزفافي, لم تنفصل عن التراث وجذوره المعبرة عن الهوية, ولم تتنازل عن فرص التطوير والحياة.
تماشت العادات مع قواعد الدين الحنيف, فأصبحت جمالية من الناحية الشكلية, وأدبية من الناحية الثقافية, وفرحًا ينعش القلوب بأهازيجه وأناشيده وطقوسه في بداية حياة الزوجية.