هذا الشكل الذي سيكون عليه العالم إذا انقرضت نصف لغاته

Photo of author

By العربية الآن



هذا الشكل الذي سيكون عليه العالم إذا انقرضت نصف لغاته

طبيعي لعلماء اللغة أن يشعروا بالقلق الشديد حيال حقيقة أن نصف لغات البشر -على الأقل- تتعرض للانقراض (بيكساباي)
طبيعي لعلماء اللغة أن يشعروا بالقلق الشديد حيال حقيقة أن نصف لغات البشر -على الأقل- تتعرض للانقراض (بيكساباي)

إذا فكّرنا قليلًا في أحدث الأرقام المنشورة على قاعدة البيانات اللغوية “إثنولوج”، المهتمة بإحصاء أعداد متحدثي جميع اللغات الإنسانية الحية، سنكتشف أن الدول القومية البالغ عددها 190 دولة تضم نحو 7168 لغة حية. يُظهر هذا التفاوت الكبير بين عدد الدول وعدد اللغات الحية دلالات واضحة، إذ يدل على أن معظم الحكومات تدعم لغة رسمية واحدة أو عدة لغات فقط، مما يعني أن غالبية اللغات الحية في العالم لا تحظى بالدعم الرسمي، وأن مستخدمي تلك اللغات هم من مجتمعات أقدم وأكثر محلية من الدول القومية، ويُعتبرونهذا الاختلاف بين عدد البلدان وعدد اللغات هو واحد من العوامل التي ستتسبب في تغيير كبير في الوعي الإنساني على مستوى العالم. ونتيجة لذلك، يُعتبر النتائج المترتبة خسارة كبيرة في التنوع اللغوي.

في مثل هذه الظروف، من الطبيعي أن يشعر علماء اللغة بقلق شديد تجاه حقيقة أن نصف اللغات البشرية -على الأقل- يواجه خطر الانقراض. ويتحدث بهذه اللغات أقل من 10,000 فرد، حتى يكون هناك مئات منهم يُستخدم اللغة من قبل أقل من عشرة أشخاص في العالم، ويُعتقد بشكل كبير أن هناك لغات عديدة لا يستخدمها سوى فرد واحد على الأقل في هذه الأرض (بالإضافة إلى أن الوضع أكثر سوءًا للغات الإشارة البالغ عددها 157 لغة حول العالم وفقا لبيانات إثنولوج، وكما هو واضح، تواجه لغات الإشارة تهديدًا أكبر بالانقراض مقارنة باللغات المنطوقة).

اطّلع على المزيد

list of 2 items

list 1 of 2

الهروب من سوط مودي.. لماذا تخشى الهند من انتفاضة بنغلاديش؟

list 2 of 2

نصف مليون مهاجر.. كيف أثّر “طوفان الأقصى” في الهجرة خارج إسرائيل؟

end of list

وعلى الجانب المقابل، سنجد عددًا هائلًا من متحدثي اللغات الكبرى مثل العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والهندية، والصينية، والإسبانية، في حين تتلاشى اللغات الأقل شهرة مع مرور الزمن. ووفقًا لأحد التقديرات، يُتحدث 96% من سكان العالم 4% فقط من جميع اللغات، والعكس صحيح أيضًا. فإذا لاحظنا بعناية، سنجد أيضًا أن 4% فقط من سكان العالم يتحدثون 96% من جميع اللغات.

التنوع اللغوي، على غرار التنوع البيولوجي، لا يوزع بالتساوي في جميع أنحاء العالم، حيث يكون أوضح في بعض المناطق مثل بابوا غينيا الجديدة (ثاني أكبر جزيرة في العالم، تقع في جنوب غرب المحيط الهادئ *)، وأفريقيا الاستوائية، وغابات الأمازون، وجبال الهيمالايا. في هذه المناطق، ساهم الاعتماد على الاقتصاديات المحلية البسيطة والمجتمعات الصغيرة، والبُعد عن السلطة المركزية أو الدول القوية، في الحفاظ على التنوع اللغوي المحلي لفترة طويلة. ولكن حاليًا، تحولت مناطق مثل جاكرتا في إندونيسيا، ولاغوس في نيجيريا، ولندن، ونيو يورك، وباريس إلى مدن تشهد تدفقات هائلة من الهجرة الوافدة.

الناس يجتمعون من مختلف أنحاء العالم في هذه المدن لأغراض العمل، والتعلم، والاستفادة من الخدمات، أو ببساطة كوسيلة للنجاة والتمتع بالحياة الحديثة. ورغم أن نيو يورك تُعتبر حاليًا المدينة الأكثر تنوعًا لغويًا في العالم، فإن بقاء هذا التنوع اللغوي في مثل هذه المدن والمجتمعات المتعددة الثقافات لم يعد مضمونًا (فعمليات الاندماج والتكيف قد تُؤدي إلى تراجع استخدام اللغات الأقل شيوعًا لصالح اللغات الأكثر شيوعًا*).

التنوع اللغوي على غرار التنوع البيولوجي، ليس موزعًا بالتساوي في جميع أنحاء العالم، إذ يبدو في أقوى حالاته في بعض المناطق مثل بابوا غينيا الجديدة (ثاني أكبر الجزر في العالم، وتقع في جنوب غرب المحيط الهادئ *)، وأفريقيا الاستوائية، وغابات الأمازون، وجبال الهيمالايا (بيكساباي)
التنوع اللغوي على غرار التنوع البيولوجي، ليس موزعًا بالتساوي في جميع أنحاء العالم (بيكساباي)

بالمقابل، لا يمكن اعتبار انخفاض اللغات أمرًا جديدًا، فلقد تذبذبت اللغات بين المراحل الظاهرة والاختفاء عبر الزمن. أحيانًا، كانت بعض اللغات تظل قائمة عدة أجيال رغم أن أعداد المتحدثين بها تكون قليلة للغاية، على عكس ما يحدث في الوقت الحالي، حيث بلغ معدل فقد اللغات الحالي نسبة غير مسبوقة تقارب نسبة فقد الأنواع الحيوانية والنباتية على سطح الكوكب. ولفهم بداية انحسار هذه اللغات، يجب أن نعود قليلًا في الزمن.

فمعانتشار الزراعة الدائمة خلال آلاف السنين، اعتمدت بعض الجماعات التي تتحدث لغات معينة على الزراعة لزيادة أعدادها، بالإضافة إلى استيطانها المناطق الجديدة التي كانت تشغلها مجموعات أصغر حجما وأكثر تنوعًا مثل الصيادين والبدو. وهذا أدى إلى تلاشي اللغة التي كانت تُتكلمها الصيادين والبدو تدريجيًا.

بالعصر الحديث، يُعزى فقدان اللغات بوتيرة سريعة إلى انتشار الإمبراطوريات الاستعمارية والتوسع الحضري المفرط والنمو السريع للرأسمالية والضغوط الوطنية التي تفرض استخدام لغة واحدة. مع انتشار نظم التعليم الرسمية ووسائل الإعلام الحديثة، أصبح من الصعب بقاء اللغات الصغيرة في وجه تغيرات عالمنا المستمر.

الحفاظ على اللغة الأم

في العديد من الحالات، لا يولي المتحدثون باللغات السائدة كثيرًا اهتمامًا لانقراض اللغات الصغيرة. غالبًا ما يتساءلون: “هل يمكن أن يكون العالم مكانًا أفضل إذا كان الجميع يتفهمون بعضهم البعض؟” ومع ذلك، يغفلون عن حقيقتين؛ الأولى هي أن استخدام نفس اللغة لا يضمن بالضرورة الفهم المتبادل أو السلام بين الأفراد الذين يُستخدمونها، بل قد يؤدي إلى نشوب الصراعات والعنف بين الأشخاص الذين يتحدثون نفس اللغة.

أما الحقيقة الثانية، فتكمن في تجاهل الفوائد العلمية والفنية والإنسانية الكبيرة للتنوع اللغوي. في كتابه “عدد هائل من الألسنة: كيف تنمي اللغات اختلافات في أساليب تفكيرنا”، يتحدث الأنثروبولوجي اللغوي كاليب إيفريت عن ثراء اللغات المهددة بالانقراض، حيث يرى أنها ليست مجرد لهجات بسيطة، بل تمتد لتشمل الأدب الشفهي والمعرفة التاريخية والعلمية والسمات اللغوية الفريدة وغيرها من المحتويات الرائعة التي لا يمكن ترجمتها جميعًا إلى لغات أُخرى.

وفي نفس السياق، تشير الدراسات المتزايدة إلى أهمية تعلّم الأطفال لغتهم الأم، حيث يمكن للحفاظ على اللغة الأم أن يكون له تأثير إيجابي كبير على صحتهم العقلية والجسدية، بالإضافة إلى البعد الأخلاقي للحفاظ على هذه اللغات في ظل تاريخ النزوح والاضطهاد الذي يعاني منه حاملوها.

بصورة عامة، لا يجب اعتبار اندثار أي لغة أمرًا لا مفر منه. في حال توفير الدعم السياسي من الحكومات المحلية أو الوطنية وتخصيص الموارد الاقتصادية اللازمة، يمكن لأي لغة مواجهة التحديات والفتن والضغوط التي تهدد استمراريتها. ومع ذلك، القليل من اللغات تحظى بهذا الدعم، مما يؤدي في النهاية إلى اندثارها نتيجة لتبني الشباب وسائل تواصل جديدة تختلف عن تلك المستخدمة من قبل الأجيال السابقة.

<صورة loading="lazy" class="حجم-صورة-قوس-770 صورة-ووردبريس-6763467" src="https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2024/08/children-studying-1722663508.jpg?w=770&resize=770%2C511" بديل="يشير تحقيقات متزايدة إلى أنه من الأفضل للأطفال أن يتعلموا بلغتهم الأم، وأن الحفاظ على اللغة الأم يمكن أن يكون له تأثيرات إيجابية كبيرة على صحتهم العقلية والبدنية (بيكساباي)" data-recalc-dims="1"><تسمية_توضيح="" 6763467" class="نص-تسمية-وردبريس">يشير تحقيقات متزايدة إلى أنه من الأفضل للأطفال أن يتعلموا بلغتهم الأم، وأن الحفاظ على اللغة الأم يمكن أن يعود بفوائد عظيمة على صحتهم العقلية والجسدية (بيكساباي)

تواجه الأشخاص الذين يتحدثون لغات تنتشر بنسبة أقل شعورًا بالإقصاء والعدم الانتماء إلى هذا العالم الذي انتشرت فيه بقوة اللغات السائدة، فلم يعد الأمر يقتصر على الحصول على الوظائف والتعليم والفرص الأخرى بلغات مثل الإنجليزية والصينية (الماندرين) والإسبانية فقط، بل زادت الأمور تعقيدًا عندما بدأ سكان السكان الأصليين في أمريكا الشمالية يشعرون بالخجل من استخدام لغاتهم الأم مثل الكري (Cree) والناواتل (Nahuatl) واللغة الخوانج (Zhuang) التي تُتكلم بها أقليات عرقية في الصين. والشعور المستمر بالخجل من لغتهم هو ما أدى في النهاية إلى سقوطهم في فخ الخجل من هويتهم الشخصية.

هذه اللغات تخوض حروبًا صعبة في محاولة للبقاء والاستمرار. وعلى الرغم من أنها تمثل نصف لغات العالم، إلا أنها تُعتبر الأقل وثائقية ومعروفة، حيث لا يتقنها سوى القليل من البشر، ولا تُسجل إلا في عدد قليل من الكتب أو التسجيلات، إن وُجدت على الإطلاق، وأحيانًا قد تكون هناك قائمة بسيطة من الكلمات لوثائق تلك اللغات. إلا أن في العقود الأخيرة، بدأت جهود جادة ومنظمة بين اللغويين لتوثيق اللغات المُهدّدة بالانقراض وتطوير ممارسات وبروتوكولات وأدوات لهذا الهدف. وفي الوقت نفسه، يبذل الأشخاص الذين يتحدثون تلك اللغات جهودًا شاقة للحفاظ عليها في محاولة لاستعادة لغتهم أو إحيائها من جديد. وقد نجحت هذه الحركة – التي تضم مئات المجتمعات حول العالم – في اكتساب زخم سياسي كبير على المستوى العالمي.

اختلاف معنى الزمن

يصوّر إيفريت في كتابه “عدد لا يُحصى من الألسنة”، تنوع لغات العالم بشكل هائل. فمعظمها يندرج تحت إحدى المئات من الفئات الكبرى للغات، مثل الأسترونيسية (وهي إحدى الفئات اللغوية الواسعة المنتشرة في مناطق مختلفة من جزر جنوب شرق آسيا وفي المحيط الهادئ وبأعداد قليلة في قارة آسيا*)، والهندو-أوروبية (التي تشمل الإنجليزية) والنيجيرية-كونغولية. ومع ذلك، توجد أيضًا أكثر من مئة لغة “منعزلة” لا علاقة لها بأي لغة معروفة. عادةً ما تنحدر الفئات اللغوية من أصل مشترك للغة بدائية من المتوقع أن ترجع جذورها إلى آلاف السنين، لكننا قد ننسى أحيانًا أن اللغات تتطور أيضًا بصفات وبنى هيكلية مستقلة، فتتغير أو تكتسب ميزات جديدة من خلال تفاعلها وتأثيرها مع لغات أخرى.

ويقدم إيفريت وصفًا معقدًا لكيفية بدء الباحثين في الاعتماد أخيرًا على عينة من لغات العالم – أكثرها تمثيلاً للواقع – لكشف الروابط بين اللغة والفكر وجوانب أخرى من التجربة.

الإنسانية. ومع إنحدار التعدد اللغوي، سوف يضيع الكون الطرق المتنوعة والدقيقة التي يتفاعل بها الجماعات البشرية مع بيئتها الطبيعية والاجتماعية لفهم عوالمها.

بالترجمة لا يمكن دائما سد الفجوة بين اللغات بشكل كامل. وبالرغم من وجود تشابهات وميول بين اللغات، فلن تجد لغة واحدة يمكن أن يُطلق عليها “لغة الأرض”، أو لغة شائعة لكل سكان الأرض، وهكذا لا توجد رؤية لغوية “من العدم”، حيث تحمل كل لغة سمات محددة ترتبط بمكان وتاريخ محدد. ومن جهة أخرى، يرى إيفريت أن اللغات المختلفة تُشفر “الخبرة الإدراكية البشرية” وتكون لها تأثيرات متعددة.

يُحاوِل إيفريت خلال كتابه مناقشة هذا الموضوع بحرص واستعمال عبارات دقيقة تعتمد على الأدلة التجريبية لتجنب الانجراف في الجدال التقليدي الذي تتعلق بفرضية سابير-وورف، التي تُقول بأن “اللغة التي يستخدمها الفرد يمكن أن تؤثر في كيفية تفكيره في مسائل ليست لغوية فقط.” مما يعني أن اللغة ليس لها تأثير فقط على كيفية التعبير عن الأفكار بالكلمات، وإنما يمكن أن تؤثر أيضًا على الأفكار ذاتها وطريقة فهم الشخص للعالم حوله. استمر النقاش حول هذه المسألة لمدة تقرب من قرن من الزمان، فرأى كثيرون من غير اللغويين أن هذه الفرضية تحتوي على قدر من العقلانية، وتصدى معظم اللغويين لهذه الفرضية كونها ادعاء لا يمكن التحقق من صحته بسهولة، بالإضافة إلى كونها مفرطة في البساطة.

مؤخرًا، اعتمد إيفريت على العديد من الدراسات الحديثة التي تُشير إلى الطرق المتنوعة والجذرية التي تتعامل بها اللغات مع مفاهيم مثل الزمان والمكان والعلاقات، وكيف يمكن لهذه الاختلافات أن تظل مترسبة في العقول والثقافات حتى بعد الانتهاء من الحديث. وعلى نحو أكثر تخمينًا، يرى إيفريت أن ثمة روابط مثيرة للاهتمام بين الخصائص اللغوية وبعض البيئات الطبيعية وأنماط الحياة المرتبطة بها. بعبارة أخرى، قد يكون الاعتقاد القديم بأن شعب الإنويت (الإسكيمو) لديه 50 كلمة لوصف الثلج مبالغًا فيه إلى حد كبير (فقد أشار عالم الأنثروبولوجيا فرانز بواس إلى وجود أربع طرق فحسب يستخدمها هذا الشعب في الأصل لوصف الثلج). ورغم أن الرقم 50 قد يكون مبالغًا فيه بعض الشيء، فإن هناك جزءًا من الحقيقة في هذه الفكرة يدعو إلى التأمل.

فلنأخذ مفهوم الوقت أو الزمان على سبيل المثال. ادّعى عالم اللغويات بنجامين وورف (صاحب فرضية سابير وورف) أن لغة قبيلة الهوبي (وهي إحدى قبائل سكان أميركا الأصليين*) الموجودة بأريزونا حاليًّا، لا تحتوي على كلمات تشير إلى الزمن. مما يوحي بأن المتحدثين بهذه اللغة قد لا يختبرون الوقت بالطريقة ذاتها التي يشعر بها المتحدثون بالإنجليزية. ورغم أن هذه الحقائق لا تزال محل جدل كبير، فإن العديد من اللغات سواء كانت كبيرة أو صغيرة، تتعامل مع مفهوم الزمان على نحوٍ مختلف، فهي إما أن تستغني عنه تمامًا أو تُعيد تقسيمه بطريقة أخرى تختلف عن الماضي والحاضر والمستقبل.

وأقرب مثال على ذلك هو لغة “الكاريتيانا(Karitiana) “، وهي لغة أمازونية تميّز بين زمنين فقط، المستقبل وغير المستقبل، ويخلط الأخير الماضي بالحاضر. أما لغة “الياغوا” ((Yagua، التي تُعتبر أمازونية أيضًا فتتضمن ثمانية أزمنة، خمسة منها تشير إلى فترات مختلفة في الماضي. ولكي يُجيد التحدث بلغة الياغوا، يحتاج المرء إلى فهم دقيق للزمن للتعبير عنه. فمثلًا عند إضافة لاحقة (siymaa) إلى الأفعال، فذلك يعني أنها وقعت في الماضي في مدة تتراوح بين أسبوع وشهر تقريبًا.

يزداد الأمر تعقيدًا حينما نتحدث عن الاستعارات العديدة للزمن في اللغات المختلفة. إذ يتعامل المتحدثون

في العملية التي تدعى بـ “التفكير المكاني”، ينظر المتحدثون للمستقبل كما لو كان أمامهم، بينما يُعتبرون الماضي خلفهم. على سبيل المثال، يرون متحدثو لغة الأيمارا في بيرو وبوليفيا المستقبل موضوعًا خلفهم بينما ينظرون للماضي أمامهم. يُظهر هذا النهج في التعبيرات إمكانية امتداد الأفكار إلى اللغة.

أجرى الباحثون تجربة لاختبار قدرة المتحدثين بلغة برينمو والإنجليزية على حفظ ألوان مختلفة. أظهرت النتائج أن كل مجموعة تفوقت في حفظ الألوان التي تتوافق مع تصنيفاتها اللغوية للألوان مقارنة بالألوان التي كانت غير واضحة، وهذا ما يُعرف بـ “الإدراك التصنيفي اللغوي”، حيث يمكن للأشخاص التمييز بين الأشياء بشكل أدق عندما تتوافق تلك الأشياء مع تصنيفات لغتهم.

يشير كتاب “عدد لا يُحصى من الألسنة” إلى العلاقة بين اللغة والفكر والثقافة. فمثلاً، يستخدم المزارعون الذين يتبعون نظامًا غذائيًا ليونًا أصواتٍ تنطق من الأسنان الأمامية والشفتين، بينما يستخدم الصيادون أصواتٍ مختلفة بسبب تشكيلة أسنانهم المختلفة.

هناك بعض الارتباطات بين اللغة والثقافة والفكر (بيكساباي)
هناك بعض الارتباطات بين اللغة والثقافة والفكر (بيكساباي)

 

اللغة لهجة تجند عددا كبيرا من الكلمات وأسطول كبير منها

اللغات مثل الأيمارا والبيرينمو والتشابالا تُعَتَّبرِ مُثِيرَة للاهْتِمام بالنِسَب لعُلَمَاء اللغويّات نظرًا لسِماتها الفريدة. وعلى الرغم من ذلك، لا يُمكن اختصارها إلى تجميعة من الخصائص الغَريبَة التي تَنْتَظِرُ أن تعرض في مُتَحفٍ مُستَقْبَلي للغات العالم، أو في أحد الأرشيفات الرَقميّة الجَدِيدَة حيث يودع اللغويّون تَسْجيلاتهم لهذه اللغات. قد لا يَخطُرُ في أَذْهانِنا أن لُغات مثل هذه تُعْتَبَرُ رُمُوزًا لتَجْسيدات الهُوية والانتماء الجَمَاعي لمُتَحَدِثِيها، فكل سِمَة فيها مُهِمَا كانَت عشْوائِيّة تَحْمِلُ مَعاني سِياسِيَّة هامة.

ومن الضروري أيضًا فَهْم أن كُلُ لغة تُواجهُ تَحَدِّيات مُختَلِفة تَبَعًا لظروفها الخاصة. فالضُغُوط التي تُتَعَرَّضُ لها لغة البيرينمو التي يُتَحْدثُ بها بَضْعَ مِئَات من الأشْخاص في قُرى مُوجودَتين في بابُوا غينيا الجَدِيدَة، تُخْتَلِف بالطبع عن تِلْك التي تَوَاجَهها لغة التشابالا التي يتَحدث بها عَدة آلاف من الأشْخَاص في منطقة الغابات المطيرة، أو لغة الأيمارا التي يتحدثُ بها نَحو ثلاثَة ملايين شَخص في عَدة دول.

كان أوَّل مَن تَفُوه بِهذه العُبَارة اليُديشية الشَهيرة: “اللغة هي لهجة تجمع عددًا كبيرًا من الكلمات وأسطولًا بحريًا”، مُدَرِّس مُجهول في مَدرَسَةٍ ثانَويّة في برونكس بنيويورك أُثناء حِديثه مع عالِم اللغويّات ماكس واينريتش في الأَرْبَعينيّات. واشتُهِرَت هذه العُبارة بِقُدْرَتِها على إِظْهار كيف يُمكِنُ في بَعض الأَحْيان تَفْضيل وتَطوير بَعض أنواع اللُغات على غيرها، وهذا لَيس بِناءً على المِعْيارات اللُغويّة مِثْل القدرة على الفَهم المُتَبادل، ولكن بناءً على القُوّة السِياسيّة والعَسْكَريّة. وتَمثَلَت إِحْدى المُفَارَقات العَجيبة في أن المُعَلّم نفسه لَم يكن مُدَرِكًا أن لُغته الأم لها تاريخ ويُمكن استخدامها في أمور أُسْمى مِن مُجرّد الأَساسيّات اليوميَّة والتواصل الشَفَوي.

والآن، يَبْدو بوضوح -أكثر من أي وَقْت مُضى- كَيْفَ تَفاقمت الفُجُوات اللغوية نَتيجة لتَفاوت الفُجُوات العالميّة في التَنميَةِ والثروة والفُرَص. يُتَعَرَّض المُتَحَدِثون باللُغات المُهَدَّدة بالانقراض إلى المزيد مِن التهميش مع الاستيلاء على أراضيهم أو جَعْلها غير صالحة للسُكن جَرّاء التغيّر المُناخي. وعادة ما يَظهَرُونَ في وَضْعِ اقتصادي أو اجتماعي ضَعيف، ويُواجِهون التهميش والفقر. ومَع انتشار مُحَوّ الأَميّة، والتعليم الرَسْمي، ووَسائل الإعلام، والتكنولوجيات الجدِيدة، تَمكَّنَت بَضْع مِئات مِن اللُغات التي تتمَتّع بوَضْع رَسَمي وشَكل مِن أَشْكال الدَّعم الحُكومي مِن إِنْقَاذ نفسها قبل فَوات الأوان.

تَوصَلَتْ إِحدى الدِرَاسات إلى أن أقل من 5% مِن جميع اللغات “تُصَعّد” إلى العالم الرقمي، وتَزْهَر عَبَر الإنترنت وفي مُجَموعة مِن التقنيّات الجدِيدة. أمّا بالنِسْبة إلى الـ95% مِن اللُغات البشريّة الأُخْرَى، فَقَد تَحْتاج إلى الدَّعْم إذا أرادت الاستمرار، خاصة تِلك المُعَقَّدَة مِنها على المُسْتَوى النَحْوي والإِدْراكي. ويَتَطلّب التأكيد على فكرة أن اللُغة ليس لها تاريخ فَحْسُب، بل تَتَمَتَّعُ أيضًا بمُسْتَقبَل، جُهُودًا جَماعيّة يُمكن مِن خلالها تَحريك المُجتمع وتوجيه الاهتمام والدَّعْم نَحو هدف مُعيّن، وذلك بإِيجاد ضُغُوط اجتماعيّة لدعم اللُغة والتأكيد على أهميتها في المُجْتَمع.

ومن جانبه، كتب المُفَكِّر السياسي ويل كيمليكا: “يَنْبَغِي أن تُتَمَّتّع الأَقَلِيّات القوميّة أو العَرْقِيّة بنفس الفُرَص والوَسائل التي تُسْتَخدَمها الأُغْلَبية القوميّة لبناء وتَعزيز هويتها الوَطَنيّة”، ورُبَّما تَرى العديد مِن الدُول أنه من المُنَاسِب تَقديم الاستقلال اللُغوي والثقافي للأَقَلِيّات طالما أن السُيَادة النهائية والقِرَارات الرئيسية لا تزال تَتْبَع الحُكُومة الرئيسية في العاصمة”.

ومع ذلك، تظل التساؤل الأساسي هو: “حتى أي مدى يمكن لعملية تحقيق الاستقلال اللغوي والثقافي للجماعات الصغيرة أن تدوم؟”. يشير اللغوي جيرالد روش إلى أن الحركات اللغوية “غالبًا ما تتبنى نهجًا قوميًّا، حيث تهدف إلى تكريس هيمنة لغة واحدة لشعب واحد على أرضه ولصالحه، باستخدام لغات الأقليات الأخرى في العملية”. ومثال بارز على ذلك هو حركة تحقيق الاستقلال في التبت (وهي حركة سياسية تسعى لاستقلال التبت عن الصين.

* لكن يتجاهل جهود هذه الحركة لتعزيز وحماية اللهجة الأم أو اللغة الوطنية كمعيار للهوية الوطنية، اللغات أو اللهجات الأخرى التي قد توجد داخل البلاد أو المجتمع يتجاوزها غالباً.

لا يمكن اعتبار الحركات اللغوية أمرًا جديدًا، إذ كانت جزءًا أساسيًا من معظم الحركات السياسية التي شكلت أسس الدول القومية الحديثة. ورغم صعوبة ظهور دول جديدة، نشهد زيادة في حركات اللغة ردًا على ضغوط الاختفاء، وغالبًا تحدث هذه تحت بند حقوق الشعوب الأصلية. وفعلاً، بعض الحكومات تلبي هذه المطالب على الأقل بإجراءات رمزية، تضمنت اللغات في الدساتير كما حدث في مناطق مثل ألاسكا والجزائر على سبيل المثال.

غير أنّ الطلبات على اعتراف ودعم اللغات تتزايد بلا توقف. في النهاية، لن ترضخ كافة الجماعات الصغيرة لفكرة زوال لغتها، ولن يتحول كل تحرك لغوي تلقائيًا إلى حركة سياسية تؤدي إلى الانفصال أو الصراع العرقي أو النزاع الأهلي. إلا أن السياسات اللغوية كسبت أهمية أكبر من أي وقت مضى، كما يتضح في النقاشات والمبادرات ذات الصلة باللغة في مناطق متعددة من العالم مثل الكاميرون وكتالونيا وهونغ كونغ وأوكرانيا.

ومع تحقيق الاستقلال عن الاستعمار، بدأت اللغات الكريولية (التي تتألف من مزيج من اللغات الأخرى*) في نشوء مرة أخرى، استعادة تأثيرها وأهميتها. وإلى جانب الجهود السياسية في جامايكا للخروج من الكومنولث البريطاني (الذي يضم 54 دولة، بعضها كانت تحت الاستعمار البريطاني وبعضها لم يكن)، تم تكريم جهود لتعزيز لغة “باتوا”، اللغة المحلية في جامايكا، التي كانت تعاني من التمييز باعتبارها شكلًا تالفًا أو مشوهًا من الإنجليزية. وختاما، لم تقتصر حركات اللغة الجديدة على اللغات الكبيرة فقط التي تتحدث بها مئات الآلاف من الناطقين بها، وإنما شملت أيضاً المجموعات الصغيرة التي تتعاون مع علماء اللغة وتستفيد من التكنولوجيا الحديثة وتستلهم من حركات اللغة في القرن العشرين. لذلك، يجب علينا أن ندرك بأن اللهجات التي ليس لها جيوش ولا أساطيل هي التي تحتاج إلى الدعم بشكل أكبر.

_____________________________________________

* الإضافات من قبل المترجم

هذه المقالة مترجمة من فورين أفيرز وقد لا تعبر بالضرورة عن آراء الجزيرة نت

المصدر : فورين أفيرز



أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.