تبنت التجاوز لرسول الإسلام وأشعلت فظائع محاكم التفتيش وأسست للطائفة المسيحية المتطرفة.. جذور ظاهرة الرهاب من الإسلام بالأندلس

Photo of author

By العربية الآن


تبنت التجاوز لرسول الإسلام وأشعلت فظائع محاكم التفتيش وأسست للطائفة المسيحية المتطرفة.. جذور ظاهرة الرهاب من الإسلام بالأندلس

التاريخ الإسلامي - تراث - المقاطعة الاقتصادية
شهد الصعود الانتخابي الجديد لأحزاب الطائفة المتطرفة في أوروبا -وعلى وجه الخصوص في فرنسا- نقاشًا حول ظاهرة الرهاب من الإسلام في العالم. ويأتي هذا المقال ليكشف الجذور التاريخية البعيدة لهذه الظاهرة المنتشرة عالميًا، وبخاصة في الدول الغربية التي تختلط بشكل مشين في مواقفها المترددة تجاه هذه الظاهرة الخطيرة، بين قيم التعايش الإنساني وجريمة الازدراء للأديان وتعميم الهوية الثقافية “الأخرى”.

وتكمن هذه الجذور في نشأة حركات الطائفة المسيحية المتطرفة ببلاد الأندلس الإسلامية قبل 1200 سنة؛ فهي معروفةلكل من يهوى الدراسات التاريخية المقارنة أن تجربتين ملحمتي الصليبيين في المشرق الإسلامي والتعايش الديني في الأندلس كانتا خطوط اتصال حيوية بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية.

ومن المثير للاهتمام أن الكثير من النِّماذج والمعتقدات النمطية التي شكّلت مؤخراً حول الإسلام -خاصة بين الأوروبيين- تحمل أصولًا تاريخية وجذورًا داخل ذلك اللقاء الفاتن الذي وقع سالمًا في لحظات كثيرة من تاريخ الأندلس الإسلامية، أو خلال الحروب المدمّرة التي استمرت قرنين في أراضي بيت المقدس.

وبينما اشتهرت الحضارة الإسلامية بتعزيز التعارف الحضاري كسمة مميزة في منهجها، تبقى معرفة جذور التبعات التاريخية ذات أهمية بالغة ضمن سمات هذا التعارف. من الجدير بالذكر أن العديد من جذور الظواهر الحالية التي تشجع على التصادم بدلاً من الحوار والتعايش لها جذور تاريخية، وأن بعض الحركات المسيحية المتطرفة التي نشأت في بلاد الأندلس قد تكون إحدى البيئات الثقافية التي استمدّت منها فكريًا اليمين المسيحي المتطرف المنتشر حالياً في أوروبا، خصوصاً فيما يتعلق بالمفاهيم والمواقف العدائية تجاه المختلف.

ويمكن لاستكشاف تلك التجربة أن يوفر لنا مجهود تكرار الأخطاء والمصائر الدموية بين الثقافات؛ إذ كان جزء كبير من وحشية محاكم التفتيش الكنسية تجاه المسلمين -وكذلك اليهود- من باب تشويه الصورة عن الآخر الديني المختلف، وبشكل أكثر وضوحًا، لعبت الإسلاموفوبيا دورًا كبيرًا حينها في التحريض والتحريض.

ويرمي هذا المقال أيضًا إلى تسليط الضوء على تجربة الأندلس الإسلامية بالنظر إلى نمطٍ من “الإسلاموفوبيا” اعتنقته حركات مسيحية متطرفة. صار جناح واسع من كياناتها الكنسية وزعماؤها الدينيون المسيحيون يعتبرونها اعتداء على تجربة التعايش السلمي المدني في البلاد بين فئاتها المسلمة والمسيحية واليهودية، ودعوا إلى تجفيف مصادر هذا الكراهية.

كما رأى المشرِّع الإسلامي الأندلسي في ذلك خطرًا جسيمًا على الأمن الاجتماعي؛ لذلك وضع نظام قانوني يناسب زمنه ويُعاقب التجاوزات على المقدسات والرموز الدينية لكل الأديان، ولا يفرق في العقوبة بين مسلم يسيء ومسيحي يستخفّ. وهو أمر يشكل فجوة تشريعية تفتقدها الدول العديدة حالياً، مما يجعل النقص التشريعي المحتوم في تقييد الازدراء بالأديان بوابة لمحاولات فردية مخرّبة تلحق الضرر أكثر مما تقدم.

كما سنتطرق إلى تسليط الضوء على مدى دفن المتعصبين المسيحيين الأندلسيين لميراث ذاك التسامح والاحترام -الذي تصافحوا به المسلمون- بعد استعادتهم الحكم على البلاد، وسنعرض سُبل نقل هذا التراث إلى الجوار الأوروبي الذي عثر هناك على علاج للأمراض المجتمعية والحروب الدينية الداخلية.

في هذا المقال، لا نتطلع إلى تطابق الماضي والحاضر في نموذج “الإسلاموفوبيا”، ولا ندعو إلى تكرار ردود الأفعال بين المسلمين والمسيحيين عبر تلك النقاط الحساسة؛ بل نطمح إلى الاستفادة من التاريخ من أجل دعم حوار الحضارات وتعارفها بدلاً من التطرف والصراع، وتجنب ازدراء الأديان والمقدسات التي تستفز هذه الصراعات العسكرية والنِزاعات الاقتصادية الهدامة التي تُنهك الجميع!

”صور

تعايش محفّز
كان الموقع الجغرافي لغرب العالم الإسلامي عمومًا مكانًا خصبًا لتبادل الحضارات والأديان ووطنًا لتواصل الشعوب وتنوعها؛ فكانت منطقة التقاء وتلاحم بين هؤلاء وهؤلاء، خاصة بالنسبة للأندلس التي كانت، على مدى ثمانية قرون، تجسّدًا لتلاقي الأديان والأعراق، حيث ساد التسامح الديني والفكري في أغلب فترات الحضور الإسلامي فيها.

وقد أحدث ذلك التسامح والتعايش إلهامًا للعديد من الأدباء والفلاسفة على مرّ العصور، حيث أبدوا إعجابهم بأنواعه وتجلياته. ويُقال إن المؤرخين -الأوروبيين والإسبان- يتفقون تقريبًا على أن حكام الأندلس اعتمدوا نهجًا جديدًا في التعامل مع هذه التنوعية منذ ظهور المسيحية في تلك البقاع.

ويعتبر عمل الكونت هنري دي كاستري، المستشرق الفرنسي الذي عاش حوالي 150 عاماً مضت وقته، في كتابه “الإسلام.. خواطر وسوانح”، حجة بارزة؛ حيث قال: “لقد زادت محاسن المسلمين للمسيحيين في بلاد الأندلس حتى رضوا على وضع أهنئ مما كانوا عليه خلال فترة احتلالهم بواسطة الجرمان”.

وبما يعرف من تأثير الأندلس على الثقافة الإسبانية والأوروبية؛ فإن الجهود لوقف حركة التعريب التي انتشرت بين مجتمعات المسيحيين في الأندلس لم تكن مقتصرة على أفراد متفرقين من الطبقة المسيحية الراقية، بل تورطت فيها مجموعات مسيحية منظمة، من بينها حركة “الشهداء المتطوعون” التي نشأت في ثلاثينات القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي.من أشهر زعماء تلك الجماعة المسيحية المتطرفة القسّ يولوخيو القرطبي (Eulogius of Córdoba المتوفى 244هـ/858م)، ولكن الجهود التي بذلت لمنع انتشار العربية والإسلام لم تكن ناجحة؛ وفقا للدارس الفرنسي ليفي بروفينسال (ت 1376هـ/1956م) في كتابه “أوجه الحضارة العربية في إسبانيا”، وكما يظهر من تقديمنا هنا للأحداث ومصير تلك الجماعة.

في ظل توسّع نطاق حرية الدين في الأندلس، والتي استمرت -بدءا من فتح الإسلام لها سنة 92هـ/711م- محفوظة بمواثيق مكتوبة؛ وجد المسيحيون واليهود الفرصة المناسبة للاستفادة من التأثير العربي الإسلامي المعروف في الأندلس.

ولا يوجد دليل أوضح من شكوى الأسقف ألفارو/ألبارو القرطبي (Alvaro de córdoba المتوفى 240هـ/854م) والذي كان من رجال الدين المسيحيين الذين انتقدوا بشدة هذا السياق، حيث انتقد النشء المسيحي تعلم اللغة العربية والعلوم الإنسانية المدوّنة بها، كما جاء في وثيقة “الدليل المنير” التي كُتِبت في سنة 240هـ/854م في ذروة أحداث “حركة الشهداء”!!

وذكر ألفارو اعتراضه على تأثير الثقافة العربية الإسلامية على المسيحيين، خاصة الشباب، كما ذكر المستشرق الإسباني آنخل غونثالث بالنثيا (ت 1368هـ/1949م) في كتابه “سيرورة الفكر الأندلسي”، وتطرق إليها المؤرخ والدارس الإسباني خوان برنيت  (ت 1432هـ/2011م) في كتابه “الاستحسان للأندلس على الغرب”.

خلال تلك الاعتراضات؛ نوه ألفارو بشدة للإسلام ورسوله محمد ﷺ، وكان من السهل على القس معرفة الشريعة الإسلامية نظرا لمعرفته بالعربية، ومع ذلك رفض ذلك واعتبرت بولفو ألفارو شخصية رئيسية بين المستأسرين وصديق الزعيم البارز للحركة القسّ يولوخيو (Eulogio de Córdoba المتوفى 244هـ/858م).

بعد فشل جميع الجهود المبذولة لمنع الشباب المسيحي من استيعاب الثقافة الإسلامية في الأندلس، تقدم القسين يولوخيو وألفارو باتجاه مهاجمة الإسلام بكل طريقة، وأسسوا ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ “حركة الشهداء”، وبدأوا في تحريض الشباب المسيحي ضد الإسلام وشتم رسوله محمد ﷺ في الأماكن العامة والمساجد والساحات.

التاريخ الإسلامي - المساجد والكنائس - تراث

انبعاث غاضب
ويشير المستشرق دي كاستري إلى أسباب نشأة هذه الحركة المتطرفة اليمينية، وما دفع مؤسسيها إلى إطلاقها من مشاعر الإحباط بسبب توقع أتباعهم المسيحيين لتسامح المجتمع الإسلامي من حولهم وعدالته؛ حيث ذكر أن “الكنيسة الأندلسية تصورت في عام 851م (237هـ) أنها على وشك التعرض للاضطهاد من قبل المسلمين، في حين كان معظم المسيحيين في قرطبة يمارسون عقائدهم بسلام وثقة بحكم العرب. كان القليل منهم يظهر غضبًا تجاههم بسبب الخوف والكراهية التي زرعوها في قلوبهم”.

وأشار دي كاستري بشكل خاص إلى دور القس يولوخيو في تحريض لهذه العواطف الدينية، موضحًا أنه “كان دائما يجتمع مع خصوم الإسلام ويخطب لهم لتعزيز حججه، وكانوا جميعًا يطالبون بالاستشهاد من أجل دينهم”!

يبدو أن أسباب تكوّن هذه الحركة المتطرفة اليمينية كانت متنوعة؛ حيث ذكر المؤرخ المصري المتخصص في تاريخ الأندلس محمد عبد الله عنان (ت 1407هـ/1986م) -في كتابه “دولة الإسلام بالأندلس”- أن العوامل الاجتماعية لم تكن السبب الوحيد في اشتعال هذا الكراهية التي اندلعت لدى المسيحيين نحو الحكم الإسلامي، بل كان للعوامل الدينية دورها أيضًا في تأجيجها. إذ أثّر إعجاب القسس والمتعصبين بمظاهر الاستعلاء والفخامة التي تتمتع بها السلطة الإسلامية، والحياة الرفيعة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية.

كما لا يستبعد عبد الله عنان الدافع السياسي الذي تحفز به مسيحيو قرطبة للمشاركة بأي شكل من الأشكال في الثورات التي اندلعت في أماكن أخرى لإسقاط الحكم الإسلامي في تلك الدول؛ حيث ذكر أن “كان بإمكان أولئك المتعصبين في المدن البعيدة عن قرطبة – كطليطلة وغيرها – أن يشعلوا شعلة الثورة ويصارعوا حكّامهم وجها لوجه، ولكن كانت الثورة في قرطبة تحدٍ صعب فحاولوا آنذاك زرع بذور الفتنة الطائفية والفوضى الدينالمسيحيون -بما في ذلك رجال الدين والمسؤولين السياسيين- يواجهون اليوم تحديات نتيجة لانتشار تصرفات متطرفة بين شبابهم. تسببت هذه التطورات السلبية في تقليص نطاق تأثيرهم.

يعد كتاب يولوخيو المصدر الوحيد الذي يوثق لهذه الأحداث التي لم تلاقِ اهتمامًا كافيًا من المصادر العربية. يُشير البعض إلى إحدى الوقائع التي وقعت خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي كإشارة مهملة. لم يولي الباحثون المعاصرون اهتمامًا كافيًا لهذا الموضوع.

وفي دراسة صونيا أغيلار غوميث، يُذكر أن يولوخيو كتب جزءاً من ذكرياته خلال فترة اعتقاله بسبب نشاطه التحريضي المتطرف. قدّم رسالة طويلة إلى أسقف مدينة بنبلونة في شمال إسبانيا. كما قدّم نسختين للافتتانيتين “فلورا” و”ماريا” اللتين ألهمتا لاحقًا بمشاركة في التيار اليميني المتطرف الذي يعارض رسالة الإسلام ونبيه.

التاريخ الإسلامي - تراث - الأندلس

تحرض شامل
وفقًا لذكريات القس يولوخيو، ادعى أنه وجد سيرة للنبي محمد في دَيْر ليري شمال شرق إسبانيا. كان هدفه من ذلك التحريض ضد الإسلام وتحريض الشباب المسيحيين ضد كل ما يتعلق بالدين الإسلامي.

تتبنى حركة الشهداء المسيحية في الأندلس استخدام “الاستشهاد المسيحي” كوسيلة للحث ونشر الكراهية في المجتمع المتعدد الديانات في الأندلس. يعتمد هذا النهج على فكرة التطويب المسيحية التي تجعل من أتباعها ينتهكون القوانين السارية، وذلك بالاعتداء على المقدسات الدينية بشكل عام.

يعرض أعضاء الحركة أنفسهم للعقوبة القتل بسبب انتهاكهم للقوانين والازدراء بالأنبياء. يستخدمون هذه النهاية “الاستشهادية” لإثارة عواطف المسيحيين وخلق صراعات دينية مدمرة في المنطقة.

في الأندلس، كان المسيحيون واليهود ملتزمين بعهد الذمة، الذي يشير إلى احترام مقدسات الديانات وممارسة العقائد بحرية شريطة عدم التسييس. كانت إهانة المقدسات الإسلامية تُعتبر جريمة قابلة للعقوبة.

وفي الختام، يجب على المجتمع الدولي اتخاذ التدابير الضرورية لمنع انتشار الكراهية وازدراء الأديان. تحيّز الجميع نحو المقاومة السلمية لاستنكار هذه الأنشطة التي تهدف لإثارة الفتن بين الأديان.

التاريخ الإسلامي - المساجد والكنائس - تراث

مزاعم متعددة
يفترض المؤرخ بيير غيشار -في كتابه ‘إسبانيا المسلمة: الأندلس الأموية.. خلال القرن الثامن والحادي عشر الميلادي‘- أن الحركة التي بدأتها “شهداء قرطبة المتطوعين” كانت نتاج إحدى العوامل التي أثرت في تطورات المنطقة.ترجع الأحداث إلى سنة 825 م الميلادية، التي توافق سنة 210 هـ، عندما حُكم على شخصان بتهمة الاساءة للإسلام ولنبيه ﷺ.

ويروي لنا السيرة أيضا أنه في سنة 213 هـ / 828 م، قام ملك الفرنجة “لويس الأول” الملقب بـ”الورع” (ت 225 هـ / 840 م) بإرسال رسالة إلى مسيحيي مدينة مارِدة في الأندلس الغربية يحثهم على مقاومة الحضور الإسلامي في الأندلس. ووفقا لـبيير غيشار، فإنه بعد مرور عقدين من الزمن، نمت تلك الجذور لتظهر كحركة أكثر شدة وتطرفا.

بالنسبة لـ”شهداء قرطبة”، هو العنوان الذي اشتهرت به مجموعة من المسيحيين المستقيلين -ويُقدَر عددهم بحوالي خمسين شخصا- اختاروا “الاستشهاد الطوعي” كتحدٍّ صريح للشريعة الإسلامية خلال فترة حكم الأميرين الأمويين عبد الرحمن الثاني (ت 238 هـ / 852 م) ومحمد الأول (ت 273 هـ / 886 م)، خلال الفترة بين عامي 235 هـ / 850 م و 244 هـ / 858 م.

أدعى يولوخيو في كتابه “ذكريات الشهداء” بقوة وإصرار على مناصرة تلك الشخصيات التي واجهت الإسلام وتَبرَّعت بحياتها تَطوعيًا بيد المسلمين. قائلاً: “سأواجه تلك الأشخاص الذين لم يكتفوا فقط برفض تعاليم الشهداء عليهم، بل حتى تلك الجماعة التي وجَّهت اتهامات وافتراءات ضدهم؛ سأواجه لأحتفظ بذكرى المؤمنين بالمسيح الذين سيحكمون في الجنة تاركين لنا نموذج مثالي للفضائل”.

لقد حرص هذا القديس على تثبيت شرعية الأفعال لأولئك الذين أسماهم “الشهداء”، حيث كانت هناك أصوات مسيحية تندّد بشدة بتلك الأعمال التي انبثقت من عقيدتهم المسيحية وتبعت شهواتهم.

التاريخ الإسلامي - تراث - المقاطعة الاقتصادية

الإدانة المسيحية
ووفقاً لمؤرخ الحضارات الأميركي “وِيلْ ديورانت” (ت 1402 هـ / 1981 م) في “قصة الحضارة”؛ عندما اشتدت هذه الحركة المعادية للإسلام وتصاعدت دعايتها، بدأ الكثيرون من المسيحيين -سواء كانوا رجال دين أم لا- بالاستياء من هذه المسابقة نحو الموت، وقالوا لهذه الجماعة المتطرفة: “إن السلطان يسمح لنا بممارسة شعائر ديننا وليس يضطهدنا، فما السبب في هذه الانحراف الشديد؟”.

ووفقا لما تنقله عنان عن المستشرق “دوزي”؛ “لم يعارض المجلس مفهوم الاستشهاد نفسه، لكنه أصدر قراره بانتقاد منهج تلك الجماعة المتطرفة، وحذر المسيحيين المخلصين من اتباع خطواتهم، وأكد ضرورة اعتقال كل متناقض”!

ويظهر أن أول “شهيد” من أعضاء “حركة شهداء قرطبة” كان راهبًا؛ فوفقًا للمستشرق الهولندي “رينهارت دوزي” (ت 1300 هـ / 1883 م) -في كتابه “المسلمون في الأندلس؛ فقد أدانت المحكمة القرطبية أحد المتعصبين المسيحيين الذي كان يدعى “پيرفيكتو” (Santo Perfecto)..، كان يسب الإسلام ويشتم نبيه بأبشع الصفات، [فتم إعدامه] في عيد الفطر من سنة 235 هـ / 850 م”؛ فاندفع بعض مؤيديه من أتباع الكنيسة إلى موته وقدموا ترقيته من رتبة “راهب” إلى “قديس”.

وبعد حادثة پيرفيكتو؛ استغل يولوخيو تلك الواقعة ليشتعل غضب المستقيلين ضد السلطات الأموية، “حيث اجتمعت جماعة من المتطرفين المسيحيين بزعامة يولوخيو وجعلت هدفها سب النبي علانية، وترحيبًا بالقتل على اعتقاد منها بأن مصير كل من يموت منهم هو الجنة”، وفقًا للمؤرخ ديورانت.

ويذكر دي كاستري أنه كان هناك رجل دين مسيحي ضمن “الشهداء” يُدعى “إسحق”، وهو من عائلة نبيلة مسيحية في قرطبة وكان يجيد اللغة العربية بطلاقة لذا كان مؤهلا لشغل منصب “كاتب” لدى سلطات قرطبة. في يوم ما، أعلن “إسحق” اعتناقه للإسلام حيث طلب منه القاضي أن يعلن الشهادتين فانهال على النبي محمد ﷺ بالسب والإساءة، مما دفع القاضي إلى الحكم عليه بالإعدام مع زملائه، حيث تمت وفاته في 5 يونيو / حزيران 851 م (236 هـ).

دي كاستري يروي محاكمة إسحق ورفاقه، قائلا: “كان القاضي يتردد في إصدار حكم الإعدام حيث كان يعتبرهم مجموعة من المتطرفين الذين يسعون إلى الانتحار”. وعلى الرغم من تردده في البداية، أصر إسحق على السب والانتقاد للإسلام مما دفع القاضي بالضرورة لإصدار حكم الإعدام عليه.قام المسلم الفارسي دوزي كذلك بـ “الاستشهاد” مع شاب يُعرف باسم “سانتشو” الذي كان يعمل كجندي في الحرس الأميري. ونتيجة لانشغاله بأفكار المتطرف الإسباني يولوخيو، اشتعل حماسه بشكل هستيري، وبدأ يرفع صوته داخل قصر الإمارة، ينتقد الإسلام ويسيء لحبيبه.

التاريخ الإسلامي - تراث - الأندلس

تأثير نسائي
لم يكن الانضمام إلى “حركة الشهداء” -المعروفة أيضًا باسم “حزب المتطرفين المسلحين” وفقًا لروافع بروفينسال- محصورًا بالرجال فقط. بل ساهمت النساء بشكل كبير في هذه الحركة، خاصة الفتيات اللاتي احتوتهن أفكار القس يولوخيو المتطرفة. ذكر المستشرقان دوزي ودي كاستري قصة “فلورا” و”ماريا” كنشطتين مُتحمستتين ضمن هذه الحركة اليمينية المتطرفة.

كانت “فلورا” فتاة بيت قرطبي شريف، أُنشأت في بيت يمزج بين الإسلام والمسيحية، حيث التقت بالقس يولوخيو الذي شجعها على الثبات في مواقفها و “الاستشهاد” من أجله. عندما اكتشف أخوها المسلم انتمائها للحركة، سلّمها للقاضي، وبدلاً من التراجع عن مواقفها بدأت بشتائم حادة ضد الإسلام، لكن القاضي، مراعيًا قرابتها للإسلام، قرر تأديبها وسجنها عسى أن تتراجع عن مواقفها المسيئة.

وحسب ديورانت، يولوخيو استطاع -خلال زياراته لفلورا في السجن- زرع أفكاره المتطرفة في قلبها، وداعمًا قرارها بالابتعاد عن الأعمال التي ندمت عليها لاحقًا. وبعد الإفراج عنها، عادت فلورا إلى سردها في السبّ على النبي محمد ﷺ. فأعيدت إلى القاضي الذي لم يجد خيارًا سوى الحكم عليها بالردة كشخصية مسلمة، لتنضم إلى “حزب الشهداء” في 24 نوفمبر 853م (239هـ)، وأطلق عليها لقب “القديسة فلورا” (Santa Flora).

وكانت الشابة المسيحية “ماريا”، التي نشأت في بيت مسيحي بأم مسلمة اعتنقت المسيحية، قد نالت نفس المصير بعد إدانتها بإساءتها للإسلام وللنبي. وبينما كانت تصلي في “كنيسة سان إثيسكلو” حيث التقت بـ فلورا، كانت تطلب من الله الصبر لتتحمل مصير “الاستشهاد”.

وحسب ديورانت، فإن “استشهاد” فلورا وماريا دفع يولوخيو إلى طلب ضحايا جدد. انتقل بقوة لتوجيه تهديدات لكهنة ورهبان ونساء يسيئون للنبي ويطالبون بإعدامهم. من النساء اللائي “استشهدن” ذكرت المصادر الإسبانية كل من “لاورا” التي أصبحت راهبة بعد وفاة زوجها، و”لوكريثيا” التي رفضت الإسلام بسبب فكر يولوخيو.
%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE %D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A2 %D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB %D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D9%8A%D8%B1%D8%A9 copyتهديد وتصعيد
قبل وفاة أمير الأندلس عبد الرحمن الثاني، اقتحم أنصار هذه الحركة المتطرفة جامع قرطبة الشهير، مما أتاح للقس يولوخيو مزيدًا من الدعاوى لتحفيز أتباعه وتعزيز روح الحماس الديني في قلوبهم.

رأت السلطة الأندلسية خطرًا كبيرًا في هذه الحركة اليمينية على الوحدة المجتمعية، فاستدعت الكهنة الإسبان المرموقين لعقد “مجمع كنسي” لبحث القضية واقتراح حلول فعالة لإقناع أفراد الحركة بعدم إهانة عقائد ورموز الدين الإسلامي، لحماية تعايش المجتمع.

حضر الأباء الذين نددوا بالتصرفات العنيفة -بمجرد اكتشافهم لخطورة هذا الاستشهاد- منهم أسقف إشبيلية خِلْفِيدو والمسؤول السياسي كونت غوميث أنطونيانو؛ اللذان اعتبرا يولوخيو متطرفًا واتهماه بارتكاب أفعال تُعد انتحارًا حسب تعاليم الدين المسيحي.

ويرى المستشرق الفرنسي دي كاستري: “بمجرد أن انزعجت الكنائس وأصبح القلق يسيطر، عقد الأمير عبد الرحمن الثاني اجتماعًا للوفاء بأعظم الكهنة في قرطبة 237هـ/852م بقيادة أسقف إشبيلية ريكافريدو..، نددوا بأفعاله. ولم يجد يولوخيو وألفارو القرطبي [وأنصارهما] أي حجّة مقنعة سوى اتهامهم بخيانة المسيحية”.

لا يطول الوقوف عند هذه المعلومات إذ تواصل القصة تطوُّرها وتشعبها.تولى الأمير محمد قيادة الحكم في الأندلس – وهو خليفة لوالده عبد الرحمن الثاني – حتى أصدر قراراً بسجن زعيم “حركة الشهداء” يولوخيو، حيث تم نقله إلى السجن قبل أن يتم الإفراج عنه شرط أن يغادر قرطبة ويصبح مطراناً في طليلطة. ولكنه عاد قريباً ليواصل تمرده ضد الإسلام، مما دفع الأمير محمد إلى إعادة اعتقاله ومحاكمته وإعدامه في 2 ذي الحجة 244 هـ.

في نهاية المطاف، تم القضاء على حركة “شهداء قرطبة”، التي كانت تعتبر من أقسى الحركات اليمينية المتطرفة أثناء الحكم الإسلامي في الأندلس. ووفقًا لديورانت، توقفت الفتنة بعد وفاتهم (= يولوخيو) لمدة سبع سنوات فلم يحدث سوى حوادث نادرة من السب والقتل بين عامي 859-983م (244-372هـ)، ولم تحدث حوادث مشابهة أثناء الحكم الإسلامي في إسبانيا.

التاريخ الإسلامي - تراث - المقاطعة الاقتصادية

تأثير عابر
اشتهرت “حركة الشهداء” في الأندلس وانتشر صيتها في المجتمعات المسيحية في أوروبا، مثيرة مشاعر التعاطف والغضب. ووفقًا للدكتور سهيل طقوش، فقد اتخذت هذه الحركة “بُعداً صليبياً جديداً على المستوى الدولي”، حيث زار رهبان من دير سان جيرمان في فرنسا قرطبة والتقوا تماسيح الحركة، ثم نقلوا “رفات هؤلاء القديسين الشهداء” لجذب انتباه أوروبا إلى قرطبة وهذه الحركة.

بينما يؤكد ديورانت انقراض “حركة شهداء قرطبة” بحلول نهاية القرن الثالث/العاشر، فإن مستشرقًا يُدعى دي كاستري يشير إلى عودة ثأر هذه الحركة في فترة الموحدين في مدينة إشبيلية، وهي واحدة من أهم المدن الإسلامية بالأندلس.

القديس فرانسيسكو الأزيسي – الذي توفي في 623 هـ – كان يحث المسيحيين على نشر المسيحية بين المسلمين، حيث دخلوا جامعاً بإشبيلية وقاموا بنشر الإنجيل والتعليم بالدين المسيحي أثناء صلوات المسلمين. وبعد طردهم من الجامع، استهدفوا قرآن المسلمين في السراي، مما أدى لإرسالهم إلى مراكش، عاصمة الموحدين في المغرب.

ما يدل على أن التسامح الإسلامي لم يثني هذه الحركات المسيئة للإسلام، حيث أشار دي كاستري إلى أن سلوك المسلمين الودود تجاه خصومهم كان يشكل دافعًا لانقلاب هذه الحركات ضدهم، وأتاح لأولئك الذين يحملون الكراهية استغلال الفرص للقضاء على النظام الذي منحهم الحق في الحياة والدين.

التاريخ الإسلامي - تراث - الأندلس

سلاح جديد
بعد ازدهار الأندلس وتميزها بالثراء والرفاهية، بزغت بوادر التفرقة والنزعة الجاهلية في أروقتها، حيث تباين مساراتها وتفتتت ممالكها وإماراتها بين “ملوك الطوائف” بفعل تصاعد الصراعات، حتى تحولت فترات السلم والهدوء إلى ومضات قصيرة في ظلام دامس.

نتيجة لذلك، ونظرًا لروح التسامح التي كانت مسيطرة في ذلك الوقت، استغل المسيحيون واليهود الفوضى ليثيروا النعرات ضد الإسلام وأتباعه. وعلى الرغم من فشل جهود “حركة شهداء قرطبة” في تحويل تلك الانتقادات إلى حملات علنية، لم يمكن منع ظهورها في سياق ثقافي وفكري معادٍ للإسلام، يشجع على الكراهية ويحرض الشباب المسيحي على مقاومة الإسلام ورسوله ﷺ.

هذا السياق أتاح بمجرد فتح الباب أمام الحملات المعادية للمسلمين، وأصبحت هذه الحركات تجاهل قيم التسامح والمعاملة الحسنة التي كانت توجد من قِبل الإسلام، مما دفع القساوسة والرهبان للتحريض ضد الإسلام ونبيه ﷺ.

والتأثيرات الناتجة من هذافي الأدب التقليدي المسيحي، خصوصا في النصوص الشعرية والأناشيد والقصص الخرافية، يظهر أن هذا النوع من الأدب نابع من التسامح الديني الذي استغله بعض المسيحيين المتعصبين لابتكار قصص وأساطير حول الإسلام وشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانوا يدعون أن المسلمين يعبدون “وثناً” يدعى “ماهوما Mahoma”. أشار الباحث الإسباني برنيت في دراسته السابقة إلى قصيدة فرنسية تسمى “أنشودة رولان” تتحدث عن الإسلام والقرآن، وهي قصيدة ضخمة تمتد على آلاف الأبيات كتبت في نهاية القرن الحادي عشر باللغة الفرنسية القديمة.

وصل التأويل الإسباني إلى ذروته في الفترة بين القرنين السابع والتاسع الهجريين/الثالث عشر والخامس عشر، حيث كتب الإسبان أعمالا تنتقد الإسلام بطريقة جدلية. كانت تلك الأعمال مبنية على تصورات فردية وخرافات وأساطير مشتقة من الخيال الجماعي الإسباني أكثر من الواقعيات.

من بين تلك الأعمال: كتاب “تاريخ إسبانيا” للملك الحكيم ألفونسو العاشر ملك قشتالة الذي كان له منهجا حول حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم يميل نحو التعصب ويفتقر إلى الدقة العلمية. كما ساهم حكم هذا الملك -الملقب بالعالم- في تعزيز حركة الترجمة من العربية إلى الإسبانية، حيث أمر بترجمة كتب العلوم والتراث العربي الإسلامي إلى اللاتينية والإسبانية.

ومع ذلك، توجه هذا التأويل بمسار آخر من خلال الترجمة والحوار الديني ومحاولات التنصير. تمت ترجمة مصادر إسلامية غزيرة مثل القرآن الكريم والسنة النبوية إلى القشتالية أو اللاتينية ودراستها وتحليلها، مما ساهم في نقل هذا التراث إلى أوروبا حيث استفادت لاحقا منه في بناء ثقافة متعددة الديانات.

صور من التاريخ الإسلامي

سُلُسُلة مُغايَرة
قد يكون الانخراط في تلك الأعمال نتيجة استعادة المسيحيين للنفوذ في الأندلس واستيلائهم على المدن الأندلسية الشمالية، خاصة طليطلة والتي سقطت نهائيا في عام 478هـ/1086م. أصبحت طليطلة مركزا حيويا لهذا النشاط الاستعرابي عبر “مدرسة طليطلة”، أول مدرسة للترجمة في أوروبا. أسس هذه المدرسة اللاهوتي الكتالوني رايموند لول.

وفي بحثه ‘إقامة رايموند لول في بجاية‘، أفاد الكاتب الفرنسي المتخصص في الأدب الكتالوني القديم بأن لول تحدث بالعربية أثناء زيارته لبجاية في الجزائر، حيث نقل صدق المسيحية وانتقد عقيدة الإسلام! بذلت مدرسته جهودا كبيرة في تنصير المسلمين باستكشاف ثقافتهم الإسلامية. اجتذبت مدرسته طليطلة القساوسة والرهبان الأوروبيين من فرنسا وإنجلترا بشكل خاص.

هذا الواقع أدى إلى تباين الأفكار والحركات داخل مدرسة طليطلة، وزاد من اندفاع التأويل الإسباني في مواجهة دينية مع “الآخر” خلال ارتفاع نيران الحروب الصليبية في الشرق الإسلامي. ازدادت النسخة الإسبانية من تلك الحروب، وجاءت عبر “حروب استرداد” الأندلس من المسلمين. هنا برزت فكرة “سلاح الكلمة” والحجة والقلم التي تفوقت في بعض الأحيان على السلاح والدروع نظرا لانحياز القوى لصالح المسلمين.

أحد كبار رجال الكنيسة الإسبان، بيتر المبجل، الذي ساهم في ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية، أعبر عن هذا التغيير قائلاً: “سأعبر إليكم بالكلمات بدلاً من السلاح، لأنني أؤمن بقوة الحوار لا العنف”. هذا يدل على تغير النهج الديني للمسيحيين مع رسوخ الحكم الإسلامي في الأندلس خلال القرن السادس عشر. وهذا ما يمكن تسميته بـ “التنصير اللطيف”.< img loading="lazy" class = "size-fantasia-770 wp-image-4266935" src = "https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2020/11/00030-6.jpg?w=770&resize=770%2C513" alt = "التاريخ الإسلامي - ثقافة - الإباحية الإقتصادية" data-recalc-dims = "1" >

خلاف مزعج
رغم جميع الهجمات والثورات الدينية ومحاولات التحول إلى الديانة المسيحية وسياسة النقد والشتم الموجهة ضد الإسلام ونبيه العظيم التي تمارسها القساوسة والرهبان، استجاب معظم مسلمي الأندلس لذلك بالتسامح والاحتضان، واعتمدوا على الجدل الديني استلهاماً من قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، ومن تجربتهم المبنية على كتب السيرة النبوية والسنة.

كانت ظاهرة الجدل الديني أحد العوامل التي دفعت غير المسلمين في الأندلس إلى التعرف على اللغة العربية والثقافة والعلوم الإسلامية. وذكر النثيا – في كتابه “تاريخ الفكر الأندلس” – أن الإعجاب بالثقافة العربية لم يكن السبب الوحيد لدراسة كتب المسلمين بل كان الدافع خلف دراستها هو التعلم وجمع الأدلة لمواجهة الإسلام وأتباعه.

تعددت استفادة غير المسلمين والمجاورين للأندلس حيث حضر العديد من الطلاب الأوروبيين إلى مراكز العلم الإسلامي في الأندلس والمغرب خلال الفترة من القرنين الخامس والثامن الهجرييْن يقدمون باحثين عن المعرفة والمعلومات في مجالات الطب والفلسفة والرياضيات والعلوم الأخرى، وعاشوا في بيئة تعايش ديني غير مألوفة ببلدانهم في أوروبا. بالإضافة إلى طلاب مدرسة طليطلة، مرتادون من القساوسة والملوك على “جامعة القرويين” في مدينة فاس، عاصمة المغرب العلمية، لتعلم اللغة العربية.

وفي سياق الاستفادة من هذه المعارف والخبرات، يُشير المؤرخ البرتغالي أدالبيرتو آلڤيش – في كتابه “البرتغال: انعكاسات ماضٍ عربي”- إلى محاولة بعض الممالك المسيحية الإسبانية تقليد النظام الإسلامي خاصة لحماية الأقليات المسلمة وتمكينها من حقوقها المتعلقة بالإقامة وممارسة الشعائر الدينية و نشاطات البيع .

يبدو أن حكام الممالك المسيحية في غرب الأندلس (البرتغال) قد تأثروا بالنموذج الأندلسي المتميز بالتسامح الديني، حيث قام البرتغاليين الأوائل بتثبيت نظام قضائي مشابه للذي ينظم شؤون أهل الذمة في حضن الدولة الإسلامية بالأندلس. وهذا النظام أصبح مصدر إلهام لأوروبا فيما بعد لحل تحدياتها الدينية الداخلية بين الكاثوليكية والبروتستانتية.

لكن هذه السابقة المستلهمة من الخبرة الإسلامية الأندلسية سرعان ما تحولت إلى تشدد ديني واستبعاد للخلافيين عن العقيدة في الوطن الواحد بعد الانتهاء من “حروب الاستعادة” بانتزاع آخر قلاع الأندلس الإسلامية وهي مملكة غرناطة في عام 897 هـ/ 1492 م، عندما خرقت الملكة إيزابيلا والملك فرناندو الثاني الاتفاقية التي أبرمت لتسليم مفاتيح غرناطة مما أدى إلى إلزام المسلمين بالانتقال إلى المسيحية.

وقد شرح الأنثروبولوجي الإسباني خوليو كارو باروخا (ت 1416 هـ/ 1995 م) في كتابه “مسلمو غرناطة بعد عام 1492 م”، ذلك من خلال تسليط الضوء على الدور البارز الذي لعبه القس فرانسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس (ت 922 هـ/ 1517 م) في حركة التنصير القسري بالأندلس، حيث تم تنفيذ سياسات التنصير القسري تحت توجيهه بأسلوب عنيف، حيث كان المسلمون مضطرين للانضمام إلى المسيحية أو مواجهة السجن والتعذيب!

ونتيجة لتلك السياسة القمعية، تمرّد بعض المسلمين على فظاحة حكام إسبانيا المسيحية وكنائسهم الاضطهادية، فهاجروا إلى شمال إفريقيا حيث استوطنوا المدن الكبرى في الغرب الإسلامي مثل طنجة وفاس والرباط وتلمسان ووهران والجزائر وتونس وطرابلس، ووصلوا إلى الإسكندرية في مصر وسواحل الشام. وبينما اعتنقت غالبية المسلمين الذين اضطروا للبقاء في بلادهم المسيحية، وابتكروا لغة سرية خاصة بهم تسمى “الإلخميادو” (الأعجمية)، وهي لغة إسبانية مكتوبة بالحروف العربية.

وتكمن الصدمة في تنكُّر ملوك إسبانيا المسيحيين وكهنتهم عند استعادتهم السيطرة على الأندلس، لإعتبارهم إرث التسامح الديني والتعايش السلمي الذي واكب الإسلام طيلة ثمانية قرون. وبذلك يبرهن عليهم قول أبي الفوارس التميمي البغدادي (ت 574 هـ/ 1178 م):
“حكمنا فكان العدل منا ساجية، فلما حكمتم سال الدم أبطح! فحسبكم”هذا الاختلاف بينا ** وكل إناء به الذي فيه يَنْضَحُ

التاريخ الإسلامي - تراث - التعايش الديني - المصدر:snappygoat

إرث مؤثٌّر
بتفحُّص الشهادات التي قدمها المستشرقون الأوروبيون الملمون بتفكيك تفاصيل تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب؛ والتي سنستعرض منها المزيد لاحقًا؛ ليس بغريب أن يتوصل الباحثون في الدراسات الأندلسية -مثل حسين مؤنس (ت 1417هـ/1996م) في ألّفه ‘فجر الأندلس‘ والدكتور أحمد شلبي (ت 1421هـ/2000م) في ‘موسوعة التاريخ الإسلامي‘- إلى أن التعايش وحرية الدين التي انتشرت عبر الأندلس كانت لها تأثير كبير في ظهور الأفكار والفلسفات التوضيحية والحرية في التعبير الديني في أنحاء أوروبا.

وجدت أوروبا “عصر الأنوار” -من خلال النموذج التعايشي الأندلسي والنظير الإسلامي الشرقي الذي عاصره خلال فترة الصليبيات (491-690هـ/1096-1291م)- حلا نهائيًا لمشكلة حروبها الدينية. وسبق ما ذكرناه عن آلڤيش من تصريح حول أصول تأثير الأندلس الذي قال إنه يعود لحظة انتهاء “حروب الاسترداد”، ومحاولة بعض الممالك المسيحية تقليد نمط الإسلام لحماية الأقليات المسلمة ومنحها الحق في المأوى وممارسة الشعائر داخل المراكز الدينية والتعامل المفتوح لنشاطات التجارة.

وفي أوائل القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، تثار النقاشات حول ظاهرة التعايش الإسلامي في الأندلس لأول مرة عندما كتب الفلاسفة خلال “عصر الأنوار”، لتشويه سمعة الملكية الكاثوليكية الإسبانية التي طردت سكانها المسلمين عقب محاكم التفتيش الرهيبة؛ ففرضت إسبانيا المسيحية -وفقًا لآلڤيش- قانونًا صارم يعكس تطرفها، ينص على: “الانضمام إلى ديننا أو الموت”!

على الرغم من تحفيزهم لهذه التحقيقات في ذلك الوقت المبكر؛ كان المفكرون الأوروبيون آنذاك يفتقرون إلى المعرفة الكافية عن الأندلس تمكنهم من استكشاف هذه الظاهرة الفريدة بالنسبة لهم، وكان من الضروري الانتظار حتى عام 1178هـ/1765م لتزايد رفوف المكتبة الأوروبية بكتاب جديد اختاره دينيس دومينيك كاردون (ت 1197هـ/1783م) بعنوان: ‘تاريخ أفريقيا وإسبانيا تحت حكم العرب‘.

وفي عام 1203هـ/1791م -أثناء ثورة فرنسا- أعقبه كلاريس دي فلوريان (ت 1206هـ/1794م) بكتابه ‘تحليل تاريخي لمسلمي إسبانيا‘ عن تاريخ الأندلس ووجود الإسلام فيها، مقدمًا معلومات ثرية عن تجربة التعايش الديني في الأندلس الإسلامية، وذلك في وقت كانت فيه أوروبا بأمس الحاجة إلى تلك التجربة.

التاريخ الإسلامي - تراث - المقاطعة الاقتصادية

مقارنة معبّرة
فقد كتب دي فلوريان في كتابه هذا مشيرًا: “يجب أن نراعي أن هؤلاء المسلمين -الذين يصوّرونهم الكثيرون من المؤرخين على أنهم بدماغ وحشية ونهم للدماء- تركوا عقيدتهم وكنائسهم وقضائهم للشعوب التي سيطروا عليها”. ولم يفوّت دي فلوريان فرصة للتشبيه بين المعاملة التي تمنح للمسلمين بعد سقوط الأندلس، والطريقة التي تم معاملة المسيحيين تحت الحكم الإسلامي عندما كانوا حكامًا للأراضي.

هذا التأثير الحضاري للأندلس الإسلامية في جوارها الأوروبي -بما فيها الأبعاد القانونية للتعامل مع المختلفين دينيًا أو طائفيًا- هو ما دفع فرناندو بيسووَا (ت 1354هـ/1935م) -أحد رواد الأدب البرتغالي في القرن العشرين- إلى تأكيد أن البرتغال شعب لاتيني/عربي، وإلى نشر قوله الشهير: “من علّمنا العرب والمسلمين”!

كما رأى جاره الإسباني أميركو كاسترو (ت 1392هـ/1972م) -في كتابه ‘الواقع التاريخي لإسبانيا‘- أن إسبانيا الكاثوليكية قد “أهملت إرثها الأندلسي الإسلامي واليهودي على حد سواء”، ملمحًا إلى أن بلاده “كانت تعيش في رخاء وتسامح خلال الفترة الإسلامية أكثر من أي وقت آخر”!

يقتبس المؤرخ آلڤيش -في كتابه السابق الذكر- من المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي جاك أوغيستن بيرك (ت 1416هـ/1995م) -الذي كان يدرّس في جامعة الجزائر- قوله: “أرى ضرورة لحوارات -حتى لو تضمنت خلافات- أن تعتمد على الحياد، وتجنب الجهل المتبادل. كما أنني أدعو إلى الدراسات الأندلسية بروح جديدة، تحمل لنا -في نفس الوقت- البقايا المتراكمة والأمل الذي لا يُنكسرُ”!!

ينقل آلڤيش عن المستشرق والشاعر البرتغالي الذييقول الكاتب الغربي بورجيس كويلو: “تحليل مسار إسبانيا والبرتغال -بدون تفكير في تأثيرات الإسلام فيهما- يعتبر رغبة جسيمة في تشويه الواقع الحالي من خلال نسيان التاريخ”. ثم يشير آلڤيش إلى عناد أوروبا المستمر تجاه الإسلام وأتباعه قائلاً: “دوماً كانت أوروبا -عبر العصور- تنظر إلى العالم الإسلامي بنظرة تعصبية واستبدادية! ومن هنا نشأت فيها روح الحروب الصليبية، ثم الطموح المتطلب للهيمنة الاستعمارية”!!

التاريخ الإسلامي - تراث - الأندلس

تجاهل وتحامل
وبالرغم مما تم كتابته عن خبرة التعايش الدینی والتسامح الاجتماعي التي عاشتها أقطار الإسلام، خصوصا في الأندلس وإسهامها الكبير في تقدیم العلوم والمعارف والحضارة التي ساهمت في تكوين عظمة أوروبا، وفقا لشهادات كبار المؤرخین الغربیین، كما قدمنا أمثلة شئیلة منها هنا؛ إلا أن هناك من المستشرقین يُنکرون هذا على المسلمین، ويَسُوغونَ لهم التهمة بإعاقة تقدم إسپانیا خلال العصور الوسطى، ويَحملونَهم مسؤولية الأزمات التي كانت تعصف بإسبانیا آنذاک. وتقدم الرؤى التحاملیة لهؤلاء المستشرقین دسیسة مستمرة لتغذیة روح الإسلاموفوبیا لدى أيديولوجیات الیمین المتطرفة في شبه الجزیرة الإيبيریة وعموم أوروبا.

یقول خوان غویتیسولو غای (ت 1438هـ/2017م) -في کتابه ‘في الاستشراق الإسپاني‘- و يتحدث عن كراهیة بعض المستشرقین للإسلام: “ليس من المفترض أن نستغرب من العداء والأحكام السابقة التي يظهرها أغلب أصحابنا تجاه الإسلام”، و الذين وصفهم بأنهم “أصحاب المسلمات المركزية العرقية”. ولذا فليس من المستغرب أبدا أن یكتب الباحث الإسپاني مارثيلينو مينينديث أي بيلايو (ت 1330هـ/1912م)، وویرد على طرد المسلمین من الأندلس: “أعتبره تحقيقا لقوانین تاریخیة لا مفر لها، إنني محزون جدا لأنه.في رحمته معهم”.

ويقول دوزي أيضًا: “حفظ المسلمون سكان الأندلس على عقيدتهم وشريعتهم وأحكامهم، ومنحوهم مناصب حتى كان بعضهم يشغل مناصب في ديوان الخلفاء”. وبعد ذلك، جاء الفرنسي هنري دي كاستري ليعترف بأن “حرية الأديان كانت على أعلى مستوى في الأندلس؛ لذلك عندما تعرضت اليهود للاضطهاد في أوروبا، لجأوا إلى حكام الأندلس في قرطبة، ولكن عندما دخل الملك كارلوس إلى مدينة سرقسطة، أمر جنوده بتدمير معابد اليهود ومساجد المسلمين”!

ويضيف في مقارنته التاريخية: “ونعلم أن المسيحيين خلال حروب الصليبيين كانوا يجتاحون البلاد ويهاجمون يهودها ومسلميها. وهذا يشير إلى أن اليهود وجدوا لجوء وحماية في الإسلام؛ إذا بقي بعضهم حتى الآن، فإن الفضل يعود إلى حسن تعامل المسلمين ورفقهم”!

ثم يخلص دي كاستري -بناءً على أبحاثه التاريخية- إلى أنه يجب على الدارس المنصف أن “يُدرك أن الدين الإسلامي لم يتفشَ بالقوة والعنف، بل الأقرب للصواب أن يُقال: إن كثرة تواضع المسلمين ورفقهم كانا سببا في سقوط الممالك العربية” في الأندلس وصقلية وغيرها من مناطق أوروبا!

_________________________

* تنويه: يُذكر هنا العناوين الأصلية للمصادر الأجنبية -غير المترجمة- المذكورة في المقال مع ترجمة غير رسمية لتسهيل الوصول للقراء غير الناطقين بلغاتها؛ وتكون مرتبة وفقاً لتواجدها في النص:

1- Ángel Gonzales Palencia, Historia de la literatura arábigo-española.
2- Henri de Castro, L’Islam : impressions et études.
3- Juan Vernet, lo que Europa debe al Islam de España.
4- Sonia Aguilar Gómez, Memorial de los santos de Córdoba de san  Eulogio de Córdoba.
5- Pierre Guichard, La España musulmana:Al-Andalús omeya (siglos VIII-XI).
6- Memoralis Sanctorum, Liber primus, edición de Córdoba.
7- Reinhart Dozy, Historia de los musulmanes de España.
8- Lévi-Provençal, La civilisation  arabe en Espagne.
9- Llinarès, Dominique,  Le sejour de Armond Lulle a Bougie. Et, Dominique Urvoy, Ramon Llule et L’islam.
10- Fernando de la Granja Santamaría, Estudios de la Historia de Al-Ándalus.
11- Julio Goytisolo Gay, Crónicas sarracinas.
12- Francisco Javier Simonet , Historia de los mozárabes españoles.
13- Julio Caro Baroja Los Musulmanes de Granada.
14- Sánchez-Albornoz Claudio, España: Un enigma histórico.
15- Américo Castro, La realidad histórica de España.
16- Adalberto, Alves, Portugal, um eco de um passado arabe.
17- Cardonne, Denis Dominique, Histoire de l’Afrique et de l’Espagne sous la domination des Arabe.
18- Jean-Pierre Claris de Florian, Précis historique sur les Maures d’Espagne.

المصدر : الجزيرة



قد يعجبك ايضا

تراث

أقرأ أيضا

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.