ماذا سيخسر العالم الإسلامي من تهجير الروهينغا؟
ومع مقتل العشرات يوميا في الأشهر الثلاثة الماضية، ازداد الوضع الإنساني مأساوية بالنسبة للمسلمين المتبقين في إقليم أراكان والذين لا يتجاوز عددهم نصف مليون بعد تهجير معظم السكان وحرمانهم من جميع حقوقهم في أزمة مستمرة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وعن الخطر المغفل عنه جراء ما يحدث، يقول سليم الأراكاني مدير جمعية أراكان الإنسانية (مقرها إسطنبول) للجزيرة نت إن “تهجير المسلمين من إقليم أراكان يعني فقدان جزء مهم من العالم الإسلامي في جنوب شرقي آسيا، وإذا أخرجوا من ديارهم لا أظن أنهم سيعودون إليها بسهولة وبالتالي خلق أزمة إنسانية جديدة في العالم الذي يضيق ذرعا باللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين”.
من الروهينغا؟
والروهينغا أقلية عرقية مسلمة عاش أبناؤها لقرون طويلة في إقليم أراكان في دولة ميانمار الواقعة جنوب شرقي آسيا، ويتحدثون لغة روهينغية خاصة بهم مختلفة تماما عن باقي اللغات في أنحاء البلاد.
ويبلغ عدد مسلمي الروهينغا حاليا 4 ملايين شخص منتشرين في أكثر من 50 دولة حول العالم، أكبر جالية منهم تعيش في ولاية كراتشي بباكستان إلى جانب أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ منهم على الشريط الحدودي لبنغلاديش، وقرابة 300 ألف شخص في المملكة العربية السعودية، بحسب جمعية أراكان الإنسانية.
وتحرم حكومة ميانمار العسكرية هذه الأقلية من الجنسية وتملك الأراضي والتصويت والسفر ويعانون من العبودية على يد الجيش والمليشيات البوذية المسلحة التي تقاتل الدولة، وقد هرب أكثر من 3 ملايين ونصف المليون خلال العقود الماضية، خصوصا في حملة عام 2017 الدموية التي جاءت بعد قرابة 5 سنوات على إعلان تأسيس “جيش إنقاذ روهينغا أراكان (أرسا)” الذي تشكل من أبناء الروهينغا لوقف قتل الأقلية المسلمة في الإقليم.
وجيش “أرسا” مختلف عن “جيش أراكان” (AA) حيث يعتبر الأخير منظمة مسلحة قومية عرقية من البوذيين تأسس عام 2009، بهدف إقامة حكم ذاتي في إقليم واستعادة استقلال شعب أراكان، ويقدر أعداد مقاتليه بين 15 ألفا و20 ألف مقاتل.
ولم يحقق جيش “أرسا” أي أثر حقيقي على الأرض لضعفه وعدم وجود أي دعم إقليمي أو دولي له، واقتصاره على الأسلحة الفردية والأسلحة البيضاء وقلة عدد المتطوعين فيه.
في المقابل، يخوض جيش أراكان حربا مستعرة ضد الجيش ميانمار في أراكان، وسيطر على العديد من المدن والقرى بين عامي 2016 و2019، ومجددا منذ بداية عام 2024، مع عمله على فرض التجنيد القسري على الروهينغا وتهجير العائلات والأطفال.
ماذا يجري حاليا في أراكان؟
تعيش ميانمار تحت حكم انقلاب عسكري (نفذه الجيش عام 2021 على حكومة أونغ سان سوتشي المنتخبة)، وتواجه الحكومة بالوقت نفسه دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة “الإبادة الجماعية” بسبب ما ارتكبته بحق مسلمي الروهينغا.
ويبدو أن التراجع العسكري الذي تعيشه سلطات ميانمار في إقليم أراكان مع سيطرة جيش أراكان على مساحات واسعة من الإقليم دفعها لتجنيد المئات من المسلمين في صفوفها رغم أنها تحرمهم من جنسيتهم وتمارس ضدهم أبشع انتهاكات حقوق الإنسان.
ولا يحظى النظام العسكري الحاكم بأي شعبية داخلية مع حالة الاستبداد وتكميم الأفواه وتردي الأوضاع الإنسانية التي يعيشها معظم السكان البالغ عددهم 60 مليونا، خصوصا أن الجيش النظامي يضهد الجميع وبدأ مؤخرا يفقد السيطرة على مساحات من الأراضي أمام قوات المعارضة في مناطق أخرى من البلاد.
ويعيش السكان ظروفا صعبة، إذ تسببت العمليات العسكرية بين جيش ميانمار وجيش أراكان بمقتل المئات من الروهينغا وتهجير عشرات الآلاف من بيوتهم وقراهم إلى الغابات والمدن الأخرى.
ففي عام 2012، طرد مئات الآلاف من الروهينغا من مناطق مختلطة في إقليم أراكان، وأجبروا على العيش في مخيمات رديئة غير قابلة للعيش البشري، وبعد قرابة 5 سنوات من ذلك وتحديدا في أغسطس/آب 2017، فر أكثر من 700 ألف شخص إلى بنغلاديش بعد أن شن الجيش عمليات تطهير وحشية استهدفت وجودهم.
ومنذ مطلع عام 2024، جندت القوات الميانمارية المئات من الرجال والشباب الروهنغيين بينهم أطفال ويافعون بشكل قسري من قرى ولاية أراكان (راخين)، وكذلك الحال في مخيمات الروهينغا في بنغلاديش، بحسب شهادات جمعها موقع الجزيرة نت.
وفي نهاية يوليو/تموز الماضي، قال مسؤولون في الأمم المتحدة إن هناك تقارير تفيد بانتهاك جيش ميانمار للقوانين الدولية وحقوق الإنسان.
وأفاد بيان مشترك للمستشارتين الأمميتين أليس ويريمو نديريتو ومو بليكر، أن معاناة سكان إقليم أراكان تتواصل بسبب القتل والعنف، رغم التدابير الاحتياطية التي أعلنتها محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني 2020.
وحذر البيان من تداعيات دخول الأزمة الإنسانية في ميانمار مرحلة خطيرة، مشيرا إلى وجود 3.2 ملايين نازح. وأكدت التقارير المتطابقة ارتكاب جيش ميانمار انتهاكات لحقوق الإنسان وجرائم أخرى تشمل الهجمات المباشرة على المدنيين، القصف الجوي، والاستهداف بالأسلحة الثقيلة، وتجنيد الأطفال، والاختطاف.
وخلال الأسبوع الماضي، قتل العشرات من الأقلية المسلمة، بينهم أطفال ونساء عبر استهدافهم بطائرات مسيّرة خلال فرارهم من ميانمار إلى بنغلاديش، والضحايا هم من أُسر كانت تنتظر عبور الحدود إلى بنغلاديش المجاورة. ونقلت وكالة رويترز عن 3 من الشهود قولهم إن “جماعة جيش أراكان” هي المسؤولة عن الهجوم، في حين نفت الجماعة تلك الاتهامات وحمّلت الجيش في ميانمار المسؤولية عنه.
وأظهرت مقاطع مصورة نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي عددا كبيرا من الجثث المتناثرة على أرض موحلة وحولها حقائب وأمتعة، وقال 3 ناجين إن أكثر من 200 شخص قُتلوا، بينما أضاف شاهد آخر بأنه رأى ما لا يقل عن 70 جثة في المكان المستهدف.
وفي شهادة خاصة للجزيرة نت، قال ظافر حسين الذي كان يعيش في قرية نايتور دايل في بلدة مونغدو بإقليم أراكان إنه فقد قدمه اليسرى جراء قصف مكثف من طائرة مسيّرة تابعة لجيش أراكان في بلدة مونغدو. وبعد هذا الحادث، فر مع عائلته وأطفاله الأربعة إلى بنغلاديش قبل حوالي أسبوعين.
وبحسب سليم، فإن الصور المؤسفة للضحايا المهجرين صحيحة، مؤكدا أن المسلمين في أراكان يواجهون مخاطر الاقتلاع الجذري والنهائي من أراضيهم عبر استهداف ممنهج لهم.
وأضاف سليم للجزيرة نت: “كان الأسبوع الماضي داميا على مسلمي الروهينغا داخل البلاد، فمع التجنيد القسري في صفوف الجيش الميانماري النظامي وجيش أراكان المطالب بالحكم الذاتي يقع المسلمون بين فكي كماشة والجميع ينكل بهم ما بين مجند قسري في الصفوف الأمامية ومعتقل بتهم الخيانة أو مهجر أو جريح أو قتيل”.
وفي حديثه للجزيرة نت قال الناشط في قضية مسلمي الروهينغا عبد الله الأراكاني: “تضم ميانمار أكثر من 45 عرقية، منها ما يطالب بالحكم الذاتي أو الانفصال عن الدولة، ومن بين هذه الفصائل المسلحة يبرز جيش أراكان الذي ازدادت مطالبه بالحكم الذاتي بعد انقلاب الجيش، ما أدى إلى اشتباكات مسلحة بينهما.
وأردف: “تسببت الاشتباكات بين الجيشين في معاناة كبيرة لأقلية الروهينغا، حيث لجأ جيش أراكان للاختباء في المناطق التي يقطنونها، كما حاول الطرفان تجنيد الرجال والشباب من الروهينغا”.
وحذر عبد الله من أن الأحداث الأخيرة تنذر بخطر حقيقي يهدد بإنهاء وجود الروهينغا المسلمين في ولاية أراكان، وتوقع أن يستغل الجيش الحكومي الوضع الحالي لصالحه، حيث سيسمح لجيش أراكان بإنهاء وجود الروهينغا، ثم يشن هجوما عليه ليظهره كفصيل مسلح متمرد يهدد الاستقرار في المنطقة.
شهادات من خارج الإقليم
وأما من يعيشون بالخارج فإنهم يواجهون ظروفا نفسية صعبة بسبب تدهور الأوضاع في بلدهم وانقطاع التواصل مع ذويهم سواء في المخيمات أو القرى التي ينزحون إليها، في ظل تصاعد الحملة العسكرية وخطة التجنيد الإجباري التي يتبعها المجلس العسكري وعمليات الانتقام التي ينفذها جيش أراكان ضد مسلمي الروهينغا.
ويحكي يومو رحمن -طالب جامعي يعيش في تركيا– للجزيرة عمّا مر به فيقول: “أنا من قرية بوثيداونج، كان والدي رئيس قريتنا التي تحيط بها معسكرات عسكرية، ورغم اندلاع المعارك بين قوات المجلس العسكري وجيش أراكان، إلا أننا كنا بأمان في البداية”.
وأضاف: “ولكن في وقت لاحق دخل جيش المتمردين الأراكانيين البلدة وبدأ القتال وسيطروا على المعسكر التابع للمجلس العسكري، بعد ذلك بدأ جيش أراكان في البحث عن الشباب الذين تم تجنيدهم قسرا من قبل الجيش، وقاموا باعتقال الأشخاص الذين عملوا تحت حكم الحكومة العسكرية وأولئك الذين لديهم أموال أو أسماء معروفة.. وفي اليوم التالي، ألقوا القبض على والدي وأطلقوا النار عليه وعلى 23 آخرين من قريتنا”.
اعتقال والد يومو دفع والدته التي كانت تعمل مدرّسة للنزوح مع جميع أبناء القرية إلى قرية مجاورة تحت سيطرة جيش أراكان، موضحا: “أخبرتني والدتي أن هناك آلاف العائلات معهم، يعيشون في منازل ومدارس ومستشفيات، ولم يتبق لديهم سوى كميات محدودة للغاية من الطعام، ولا توجد مرافق طبية، ويموت الأطفال بسبب الإسهال وأمراض أخرى، ولا يُسمح لهم بالعودة إلى منازلهم الأصلية، على الرغم من أن المدينة بأكملها تحت سيطرة جيش أراكان”.
شهادة أخرى من أياز الأراكاني، وهو طالب أيضا في إحدى الجامعات التركية، قال: “طُلب من الناس إخلاء القرية، فغادرت عائلتي حاملة القليل من الأمتعة. وبعد إخلاء القرى، انتشر النهب والسلب”.
ويقول أياز إنه في مدينة لافادو، قتل الطفل موحي الذي يبلغ من العمر 10 سنوات، وبعد أن تم اعتقال والده من قبل الجيش وضعوه في الخط الأمامي لاستخدامه كدرع بشري وقتل، أخلت آلاف العائلات منازلها وانفصلوا عن رجالهم وتوجهوا نحو الطريق المؤدي إلى موند، وفي منتصف الطريق لم يتمكنوا من العودة وتم تركهم هناك، وقاموا بحرق القرية بالكامل تقريبا، ودمرت نحو 210 آلاف منزل خلال 100 يوم.
وبالإضافة إلى أن أسعار السلع التي ارتفعت بشكل كبير لتصل إلى 10 أضعاف، بحسب أياز، فإنه لم يكن لدى عائلته والعائلات الأخرى أي مكان للذهاب إليه لأنهم لم يكن لديهم وثائق لزيارة المدن الأخرى، كما أُغلقت المدن وكل الطرق المؤدية إليها، فبقوا مع مئات الأشخاص الذين يموتون من الجوع على جانب الطرقات بين القرى”.
وأشار إلى أن الحرب تتوسع، ولا يستطيع الناس الاتصال ولا تصل المعلومات إلى الخارج، اعتُقل آلاف الأشخاص من المدينة والقرى وكان ابن أخته أحدهم، كما وضع أحد أقاربه في الخط الأمامي.
الأمر نفسه ينطبق على محمد والذي قال للجزيرة نت الآن بعد أن أفرغت البلدة تماما، هناك 200 ألف من الروهينغا المسلمين يعيشون كلاجئين جدد، وهم يحتشدون اليوم في المدارس والأماكن العامة والطرقات والغابات وعلى ضفة النهر للهروب إلى بنغلاديش، هناك من 5 إلى 10 عائلات تعيش في منزل لعائلة واحدة، الأمراض تنتشر في كل مكان، ويتفشى الإسهال والإقياء بين الأطفال، إلى جانب بداية موسم الأمطار الغزيرة، والناس بلا مأوى.
وأكّد محمد أنه في “موند هناك عشرات القتلى يوميا، نحن هنا في تركيا نسمع عن عشرات الضحايا، الوضع مزري للغاية، أحرقت بيوتهم في قراهم التي غادروا منها، ولا يسمح لهم بالعودة ولا يجدون أماكن تؤيهم”.
قضية منسية لا يتحدث عنها أحد
وفي خضم الأزمات الإنسانية الكثيرة التي تشغل العالم، مع استمرار العداون الإسرائيلي على غزة، وما يجري في سوريا والسودان واليمن وليبيا وغيرها من المناطق، يكاد لا يذكر أحد المأساة المستمرة التي يعيشها مسلمو الروهينغا.
يتمسك الروهينغي المسلم بهاتفه الذكي كأنها الروح التي في جسده، ليس حبا بتمرير المقاطع المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي وليس لمتابعة آخر الأخبار، إنما هي الوسيلة الوحيدة التي تصله بذويه وأقاربه وأصدقائه المهجرين والنازحين واللاجئين داخل وخارج إقليم أراكان.
وفي هذا السياق، قال مدير جمعية أراكان إن قضيتنا عادلة وتستحق تسليط الضوء والاهتمام، كما أن ما يجري في أراكان له العديد من الأسباب، فالإقليم من أغنى الأقاليم في ميانمار، فهو يطل على الساحل الغربي للبلاد، وتشرف عاصمته سيتوي على الجزء الشمالي من الساحل، وهو غني بالثروات الطبيعية من غاز ونفط إلى جانب الثروة السمكية والزراعية غير المستغلة، بالإضافة إلى أهميته التجارية كذلك.
ودعا عبد الله الأراكاني لتحرك إسلامي سريع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والضغط على حكومة ميانمار من قبل الحكومات الإسلامية لتهدئة الأوضاع والاعتراف بحقوق الأقلية المسلمة، حيث يمكن للعديد من الدول الإسلامية طلب ذلك لو أرادت؛ سواء من الصين وكوريا الجنوبية والهند التي لديها مصالح مهمة في ميانمار للضغط على القوى الحاكمة لإيقاف اقتلاع المسلمين من أراضيهم.