ذريعة نتنياهو للانطلاق في مغامرة حربية جديدة
مغامرة جديدة
يتعامل نتنياهو مع التطورات الميدانية والسياسية وكأنها تصب في مصلحته، إذ يرى أن حالة الحرب والطوارئ فتحت له مجالًا للتحرك داخليًا واتخاذ قرارات أوسع. أما على الصعيد الخارجي، فهو يعتقد أن التحديات الانتخابية في الولايات المتحدة، والتي تسارعت مع انسحاب بايدن وترشح كامالا هاريس، تتيح له مزيدًا من حرية الحركة. وقد ظهر هذا الشعور خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن وخطابه في الكونغرس، حيث ركز بشكل رئيسي على أهمية توجيه ضربة عسكرية لإيران.
يدرك نتنياهو أيضًا أن الوقت يمر بسرعة، وأن الفرصة ليست مفتوحة إلى ما لا نهاية. ويمكن الاستدلال على ذلك من تصريح الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بقوله: “لا أريد أن تكون الحرب مستمرة لدى عودتي إلى البيت الأبيض”. مما يعني أن نتنياهو لديه أشهر قليلة لإنهاء الحرب.
من المعروف أيضًا أن لنتنياهو أهدافًا أخرى تتعلق بمستقبله السياسي وضمان خروجه الآمن من السلطة السياسية الإسرائيلية؛ فهو يدرك جيدًا أن الرأي العام الإسرائيلي لا يزال، رغم كل الجرائم الحاصلة والاغتيالات، يحمّله مسؤولية عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. تلك العملية التي لم تكن لتحدث لولا “غض النظر” عن تطوير حماس لبنيتها العسكرية.
لذا، بدأ نتنياهو التحضير للمرحلة الجديدة من الحرب الطويلة عبر زيارته لواشنطن ولقاءاته الباردة مع أركان الحكم الأميركي. وقد أعطاه صاروخ “مجدل شمس”، الذي تهرب الجميع من إعلان المسؤولية عنه، ذريعة للانطلاق نحو مغامرة حربية جديدة قد تشمل تداعياتها كل المنطقة.
هذا ما أدى إلى النزاع السياسي بين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، حيث حاول الأخير إدارة الرد العسكري على صاروخ “مجدل شمس”، لكن نتنياهو تصدى له بعدم اتخاذ أي قرار وتجميد كل شيء حتى عودته. ومع تنفيذ الضربات الإسرائيلية، أصبح المشهد أكثر وضوحًا، حيث بدا نتنياهو أكثر قلقًا من علاقة خصمه مع الإدارة الأميركية.
فالضربات الإسرائيلية تجاوزت سقف المعركة القائمة وتخطت قواعد الاشتباك المرسومة، سواء من خلال اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت أو باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، بعد ساعات قليلة من دخوله أهم مقرات “الحرس الثوري” عشية مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد.
هاتان العمليتان، بما تحملان من دلالات على تهور نتنياهو الميداني، تبعتهما ضربات استهدفت فصائل متمركزة في القصير في سوريا وجرف الصخر في العراق. من الواضح أن نتنياهو يهدف إلى توجيه ضربات استفزازية لا يمكن لإيران أو حزب الله تجاهلها دون رد.
استنفار عسكري
يعتبر بعض المراقبين أن نتنياهو، المترقب للردود على استهدافَي الضاحية وطهران، يعمل على حشد الجبهة الداخلية، فعلى سبيل المثال نقل جزءًا من المنتجات الزراعية من المدن الشمالية إلى المدن الداخلية، بالإضافة إلى إزالة نترات الأمونيوم والمواد السريعة الاشتعال من معامل المنطقة الشمالية.
قبل ذلك، وجّهت الطائرات الحربية الإسرائيلية ضربة لهدف بعيد، وهو ميناء الحُديدة اليمني. وأكدت إسرائيل حينها أن العملية أنجزها سلاح الجو الإسرائيلي دون مساعدة من أحد، ما يشير إلى أن إسرائيل باتت قادرة على توجيه ضربة مماثلة في منطقة بعيدة مثل إيران.
وفي الوقت ذاته، حصلت إسرائيل على قنابل تحدث دمارًا واسعًا، بالإضافة إلى الأسلحة الذكية والانشطارية التي تسعى لاستخدامها في لبنان كما استخدمتها في قطاع غزة.
اللافت في هذا السياق هو حالة الاستنفار العسكري الأميركي والبريطاني في مياه المتوسط قبالة لبنان والخليج العربي. وعلى الرغم من أن الطابع العسكري لهذه القطع البحرية “دفاعي” كونها مجهزة بصواريخ متخصصة في إسقاط الصواريخ الباليستية الموجهة نحو إسرائيل، فإن الجميع بات مقتنعًا بأن الإدارة الديمقراطية حريصة على عدم التورط في مستنقع الحرب في المنطقة، رغم أنها أصبحت غير قادرة على لجم اندفاع نتنياهو.
من هنا، تجري في الأروقة الدبلوماسية اتصالات ولقاءات لمحاولة سحب الجميع من حافة الهاوية عبر الدخول في مفاوضات جدية تمنع الانفجار. وتندرج زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى طهران في هذا الإطار، رغم حالة البرودة والتوتر بين الجانبين والاتهامات المستمرة من الأردن لإيران بزعزعة أمنه.
اتضح أن الصفدي، الذي عاد أدراجه، لم يتمكن من إحداث خرق يذكر في دفع إيران لتجاوز قرارها بالرد على اغتيال إسماعيل هنية، وهذا ما أعلنته طهران خلال زيارة الصفدي في جلسة البرلمان الإيراني عبر التأكيد على دعوة القيادة السياسية إلى “رد مزلزل على إسرائيل”. رغم ذلك، كانت هناك إشارات مرنة ولو صامتة من قبل طهران تجاه واشنطن، عبر إبقاء قناة التواصل مفتوحة بينهما إما عبر قطر أو سلطنة عمان.
سياسة الاستفزاز والاستهداف
كل هذه الوقائع تجعل المنطقة تعيش على وقع مغامرات نتنياهو، الذي بات من الصعب توقع أفعاله وجرائمه المتخيلة. يبدو الرجل مستعدًا لإدخال المنطقة بأكملها في دوامة صراع لا تنتهي، ولو استدرج معه كل القوى والدول. فلو تطورت الوقائع العسكرية إلى ضربات متبادلة بين طهران وتل أبيب، فإن ذلك سيشمل الكثير من الدول العربية التي قد تجد نفسها في قلب الصراع، مما يزيد من مخاطر تفجر الأوضاع الإقليمية.
لا يمكن إغفال ما تبثه وسائل الإعلام المقربة من الجمهوريين الأميركيين عن موجة ثورات محتملة إثر ما يجري في المنطقة.
أما على جانب حزب الله، فإن الحزب الذي فصل بين الرد على اغتيال القيادي فؤاد شكر وبين جبهة الإسناد ضمن قواعدها التقليدية، يؤكد أن رده على ضرب الضاحية الجنوبية لبيروت سيكون مؤكدًا. هذا الرد سيكون كافيًا لإعادة قواعد الردع إلى سابق عهدها؛ كي لا يستمر نتنياهو في مواصلة سياسة الاستفزاز والاستهداف بلا رادع.
من هنا، تلقى الحزب رسائل من واشنطن عبر وسطاء من دول عدة تؤكد على ثابتة رئيسية، وهي أن الإدارة الأميركية لم تكن على علم بالضربة الإسرائيلية التي استهدفت الضاحية الجنوبية لبيروت، وأن واشنطن لا علاقة لها بما جرى ولا ترغب في الحرب. لكن الحزب يرى أن الأميركيين وحدهم القادرون على وقف إسرائيل عن مواصلة الحرب، لو أرادوا ذلك.
قد يكون نتنياهو، ومعه قوى اليمين الإسرائيلي المتطرف، يرون أن الظروف تلعب لمصلحة الذهاب نحو تغيير المعادلة الإقليمية القائمة. وربما ترى واشنطن، التي تعيش أدق استحقاق انتخابي، أن لا شيء يمنع من إعادة رسم ملامح المنطقة ونفوذ الأطراف فيها ما دامت المفاوضات السياسية لم تحدث أي خرق حتى الآن ولم تصل إلى النتائج المرجوة.
رابط المصدر