صوتيات أمي و”قرعة” المتّة الباردة على الشرفة!

Photo of author

By العربية الآن



رسائل أمي الصوتية و”قرعة” المتة الباردة على الشرفة!

منازل دمشق تغص بالنازحين رغم الإيجارات المرتفعة
أريد أن أعيد الماضي بحلوه ومرّه فأعرّيه من رداءته وألبسه رداء الضحكات والجمال اللامتناهي (الجزيرة)
تشترك أمي، مثل الكثير من نساء الجبل وأمهاتهم، في حبّها للمتة، حيث كانت أول ما يلامس شفتيها صباح كل يوم، وهي تُسخّن إبريقها على الموقد القديم في “غرقة الشتاء”.

وكانت دائمًا تدعوني للاحتساء عندما تراني مشغولة بالدراسة أو القراءة، رغبةً منها لإبعادي عن عالم الخيال الذي لطالما أرادت مشاركته معي. كان الأمر يتطلب القليل من “القرقعة”، تلك التي تعتبرها أولوية لا يمكن التخلي عنها، حتى مع ضغوطات الحياة من حولها.

لكن قرعة المتة تلك كانت أول ما تركته ورائي عندما غادرت البلاد، معتقدةً أنني سأتمكن من نسيان تلك اللحظات مع الذكريات القديمة، متأكدةً من أنني سأفعل ما حذرني منه أحد المقربين، وهو أنني “سأرمي التفل مع الماء المتسخ”.

لم تكن ذاكرتي تعرف كيف تعيد نفسها إلى صوابها، وكانت محاولات تذكيرها بأسباب مغادرتي تشبه الروتين اليومي الذي يعيد شحن آلامها.

لا يختار أحد مغادرة وطنه بإرادته، ولا أحد يرغب في التخلي عن عاداته، إلا في حال كان مضطراً لذلك. لكن طرق البلدان لطردنا خبيثة، تجعلنا نعيش في سرابٍ نعتقد فيه أننا نحن من نختار وهاجرنا برغبتنا. لذلك، قد لا تناسبنا تسميات “مهاجرين”، بل “مطرودون” أو “مخذولون” من الوطن.

لم أكن أرغب في الكتابة عن الغربة، لأنها من المواضيع التي أتحاشاها، خشية من نظرتي لنفسي أو شعوري بالفشل. لكن هذا الانعزال الذي فرضته وحدتي في مدينة الأولمبياد أطلق ذاكرتي في رحلة بحث انتقائية، حيث أصبحت أتأثر بمشاعر وطنية لم أختبرها سابقًا، وحتى أحن لمشاهد لم أعايشها.

وسألت نفسي: هل يمكن أن أتحول من السخرية من الوطن إلى التعاطف؟ لكن ماذا يعني هذا التعاطف الذي يظهر بعد أن دمر لبنان فيّ عبر جدرانه وجوحه؟

أصبحت ذاكرتي بحاجة ماسة لاستعادت نفسها، وقد بات تذكيري بمغادرتي يشبه الروتين اليومي الذي يعيد الصدمات لذهني، لعلي أتمكن من التغلب على زهايمري الجديد.

أنا أيضًا، حرفياً، “تائهة كولد فقد أهله بين الجموع”، وأريد استعادة الماضي بجماله ومرارته، محاولًة عريه من عيوبه وإلباسه ثوب الضحكات والأمل.

كان كأنني أخرج جثث الماضي المدفونة لأشمها ثم أعيدها إلى حيث كانت! تجربة شبيهة بـ”نكروفيليا نفسية” تثير شوقي للماضي، جثة لا يمكن إحياؤها، وللأسف كانت تلك اللحظات مجرد محطات لنسيان ما كنت أعيشه من صعوبات.

من الممكن أن نصل لهذا الشعور بعد محاولات عديدة للهروب من مرارة الواقع، أو ربما هي محطة مؤقتة قبل أن نبدأ في التكيف مع واقع جديد نهرب فيه من ذكرياتنا الدفينة.

ولكن، الشيء الوحيد الذي ظل ثابتًا أمام كل هذا الفوضى هو غصة أمي في غياب رسائلها الصوتية، غصة أشعر بها في كل مرة أستمع فيها لصوتها مبتسمة لتطمئنني، وكأنها تعرف أن غصتها تتحول في داخلي إلى دمعة.

فأنا أيضًا أريد استعادة الماضي حاملاً ذكرياته بوضوح، ولكن كيف مضى الوقت دون أن نعيشه وكيف ازدادت الروابط بيننا مع ابتعادي؟

لا أعتقد أنني كنت قاسية على الماضي، بل لم أرمي التفل ولا مياهه، فقد مجرد نسيت أن المياه متسخة وقد شربتها برغبة، مُسامحة كل شيء.

أذكر قول يوسف سعد: “الأشياء تفقد قيمتها عندما تقترب منها”، لكن لم أتوقع أن تكون كالعلاقة بيننا كالحبال التي تُشدّ من طرفين متعاكسين لتصبح أكثر قوة، لكنها تسترخي عند الاقتراب، وتكون عرضة للانقطاع عند الابتعاد.

أما الآن، ورغم تقليلي من شرب المتة، لا يزال صدى غليان الإبريق يرافقني، وصوت “البومبيجا” يُحاكي أذني وأنا أستمتع بأول رشفة، وكأنكِ لا تزالين ممسكة برسائلك الصوتية، متوجهةً لي برسالة صغيرة بعد جلسة من الأمل.

وفي النهاية، لم أكن قاسية بحق الماضي، بل احتفظت بالتفل بجواري، بجانب رسائلك الصوتية وكأس المتة الباردة، بانتظار أن تعود شرارتها مجددًا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.