الجوانب الفلسفية والنفسية في نزاع غزة

Photo of author

By العربية الآن



الأبعاد الفلسفية والنفسية لحرب غزة

ضحايا القصف الإسرائيلي على بيت لاهيا بشمال قطاع غزة المصدر : مواقع التواصل : أنس الشريف
الفلسفة تشير إلى أن الحروب غالبًا ما تُستخدم كوسيلة لتعزيز الهوية الجماعية على حساب الآخر (مواقع التواصل)

تُعتبر الحروب من أكثر الظواهر تعقيدًا في الطبيعة البشرية، فهي تدمج السياسة والاقتصاد والثقافة والنفس البشرية. النزاع الحالي في غزة ليس استثناءً، بل يبرز مجموعة من الأبعاد الفلسفية والنفسية التي تؤثر على الأفراد والمجتمعات، متجاوزةً المواجهة العسكرية لتشمل جوانب عميقة تتعلق بالهوية والمعنى والانتماء، مما يستدعي تحليلًا فلسفيًا ونفسيًا متعمقًا.

خلال الصراع في غزة، يبدو أن العنف لا يؤدي إلا إلى مزيد من العنف، مما يعمق مشاعر الخواء والعبثية لدى الأفراد. هذا الإدراك للعبث يمكن أن يدفع الأشخاص إلى إعادة تقييم أهدافهم ومعاني حياتهم، بحثًا عن ملاذ في القيم الإنسانية البسيطة.

البعد الفلسفي للحرب

  • مفهوم العدالة والظلم: تطرح حرب غزة أسئلة حول العدالة والظلم ليس فقط على مستوى الدول، بل أيضًا على المستوى الفردي. يعتبر العديد أن العدالة هي حق مشروع للفلسطينيين في الدفاع عن أراضيهم وحقوقهم، في حين ترى السلطات الإسرائيلية ودعمها أن العدالة تتطلب الحفاظ على الأمن والاستقرار حتى باستخدام القوة بما قد يصل إلى مشاعر اللامبالاة الأخلاقية.

إن هذا التناقض يعكس ضياع مفهوم العدالة في إطار مصالح وحقوق متشابكة ومعقدة. وقد أظهرت الدراسات الفلسفية المتعلقة بالحرب أن هذه المفاهيم ليست ثابتة كما يُعتقد، بل تتأثر بالسياق الثقافي والسياسي، مما يجعلها نقاط جدل مستمر في الصراعات.

  • الهوية والانتماء: تُثير الحرب تساؤلات حول الهوية الجماعية والفردية. ترى الفلسفة أن الحروب تُستخدم غالبًا كوسيلة لتعزيز الهوية الجماعية على حساب الآخرين. في حرب غزة، يتم تعزيز الهوية الفلسطينية من خلال المقاومة، بينما تُعزز هوية الاحتلال الإسرائيلية عبر إبادة الآخر، متحديةً بذلك جميع الخطوط الحمراء تحت ستار الدفاع عن النفس.

لقد تناول الباحث إدوارد سعيد هذا الموضوع من منظور ثقافي وفلسفي في كتاباته مثل “الاستشراق” و”تمثيلات المثقف”، حيث يُظهر كيف تعيد الصراعات تشكيل الهوية وتعميق مشاعر الانتماء. تعتبر الهوية الفلسطينية رمزًا للمقاومة والكرامة في مواجهة الاحتلال.

تشير فلسفات مثل تلك التي وضعها فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى، إلى أن البحث عن معنى في المعاناة يمكن أن يحوّل التجارب المؤلمة إلى فرص للنمو الروحي والنفسي.

يرى سعيد أن الهوية غير ثابتة، بل تتغير وتتعدد عبر العلاقات الثقافية والسياسية. في سياق النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، يُظهر كيف تتشكل الهوية الفلسطينية من خلال المقاومة ضد الاحتلال والاضطهاد، مبرزًا أن المقاومة ليست عسكرية فقط بل ثقافية، حيث يسعى الفلسطينيون للحفاظ على ثقافتهم وتاريخهم في وجه محاولات الطمس.

  • اللامعنى والعبث: يطرح الصراع سؤالًا جوهريًا حول معنى الحياة في ظل العنف المستمر. ناقش الفلاسفة مثل جان بول سارتر وألبير كامو فكرة العبث في ظل عالم مليء بالعنف والمعاناة.

في فلسفة العبث كما قدمها ألبير كامو، يتم تسليط الضوء على كيفية مواجهة عالم مليء بالعنف والظلم. يمكن أن يصنف الصمود ضد الظلم كرفض للاستسلام للعبثية، حيث يعتبر الصمود فلسفة تُعبر عن إرادة الحياة بكرامة وإعطاء معنى للحياة حتى في أصعب الظروف.

في سياق حرب غزة، يبدو أن العنف لا يؤدي إلا لمزيد من العنف، مما يزيد من مشاعر العبث لدى الأفراد. قد يدفع هذا الإحساس البعض إلى إعادة تقييم أهدافهم في الحياة، بحثًا عن ملاذ في قيم إنسانية بسيطة أو تمسك بالأمل رغم الظلام المحيط.

  • إضفاء المعنى على المعاناة: الفلاسفة مثل فيكتور فرانكل يؤكدون أن البحث عن معنى في المعاناة يمكن أن يحوّل التجارب المؤلمة إلى فرص للنمو الروحي والنفسي. في سياق الحرب، يمنح الصمود للأفراد معنى أكبر لمعاناتهم، حيث يعتبر مواجهة الظلم بكرامة وصمود عملًا مقاومًا يحمل في طياته رغبة في تحقيق العدالة.

رغم القسوة التي تفرضها الحرب، فإنها تُبرز أيضًا جانبًا نفسيًا آخر وهو التضامن. في غزة، تظهر المجتمعات مستويات عالية من التكاتف والدعم المتبادل.

البعد النفسي للحرب

  • الصدمة النفسية: من الناحية النفسية، تترك الحروب آثارًا عميقة على الأفراد، خصوصًا الشريحة الضعيفة كالأطفال والنساء. وقد أظهرت دراسة من جامعة الأزهر في غزة أن حوالي 90% من الأطفال في غزة يعانون من أشكال مختلفة من الصدمة النفسية بسبب العنف المستمر. هذا النوع من الصدمة يتجاوز الأذى الجسدي ليشمل تغييرات جوهرية في رؤية الفرد للعالم.

تؤدي الصدمة النفسية إلى اضطرابات مثل اضطراب ما بعد الصدمة، مما يجعل الأفراد يعيشون في حالة دائمة من الخوف والقلق، وهو ما يؤثر بشكل عميق على شخصياتهم المستقبلية.

  • التكيف النفسي وآليات الدفاع: في خضم الحرب، يعتمد الأفراد على آليات دفاع نفسي مختلفة مثل الإنكار والتكيف النفسي. بينما تساعد هذه الآليات الأفراد على التكيف مع الواقع، قد تؤدي أيضًا إلى تشويه الحقائق وتعزيز مشاعر العدمية. فمثلاً، في غزة، ينكر بعض الأفراد حجم المأساة كمظهر من مظاهر الدفاع النفسي، بينما يتبنى آخرون رؤية تركز على الصمود والتحدي كوسيلة لمواجهة الظلم.

من خلال تحليل ميشيل فوكو لفلسفة القوة، يمكن اعتبار الصمود نوعًا من القوة الناعمة التي تمارسها المجتمعات المتضررة ضد الأنظمة القمعية. إذ يُظهر فوكو أن القوة ليست مجرد سيطرة مباشرة، بل هي القدرة على مقاومة القهر بطرق إبداعية.

التحليل الفلسفي والنفسي للصراع يساهم في تقديم فهم أعمق لتأثيراته، مما يتيح التفكير في حلول تتخطى العنف، وتعزز الإنسانية في مواجهة الكوارث.

  • التضامن الاجتماعي والنفسي: على الرغم من قسوة الحرب، فإنها تبرز أيضًا جانبًا نفسيًا يتمثل في التضامن، حيث تظهر المجتمعات في غزة مستوى عالٍ من التكاتف والدعم المتبادل، ما يعكس رغبة قوية في الاستمرار والبقاء على الرغم من التحديات.

يمكن تفسير هذا التضامن نفسيًا كوسيلة لتعزيز الأمن والانتماء في مواجهة الفوضى، حيث تشير الأبحاث إلى أن التضامن يُعدّ وسيلة فعالة لتخفيف آثار الصدمات النفسية، وتعزيز القدرة على الصمود.

توضح حرب غزة الأبعاد الفلسفية والنفسية المتعلقة بالعدالة والهوية والمعاناة والمعنى، بالإضافة إلى التأثيرات النفسية العميقة على الأفراد والمجتمعات. هذه الحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل هي صراع وجودي على جميع الأصعدة الإنسانية.

يساعد التحليل الفلسفي والنفسي في تقديم رؤية أعمق حول تأثيرات الصراع، مما يفتح المجال للتفكير في حلول بديلة تسهم في تعزيز الإنسانية في مواجهة الأزمات.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.



رابط المصدر

أضف تعليق

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.