صنعاء وتهامة: غناء الموشح “الحُميني” والتنافس السياسي بين مركزين يمنيين
شهد الغناء في اليمن تحولات في مراكزه الرئيسية، إذ يُعد الموشح “الحُميني” من أبرز تلك التحولات حتى منتصف القرن الماضي. ومنذ نشأته في القرن الثالث عشر، لم يكن الموشح رمزاً للغناء فحسب، بل كان أيضاً تعبيراً عن السياسة بشكل غير مباشر.
ورغم التنوع الغنائي في اليمن، المرتبط باختلاف اللهجات والعادات الاجتماعية، فقد تركت السياسة بصمتها الواضحة، ولعل غناء صنعاء من أبرز تلك الظواهر المحاطة بالأسرار.
ثلاث قرون بين مركزين
الموشح يُعتبر العنصر الأساسي في التراث الغنائي اليمني، ويعود أصله إلى الزبيد، في جنوب تهامة. وتعود أقدم نصوصه إلى أواخر العهد الأيوبي أو بداية العهد الرسولي. بينما بدأ استخدامه اللهج الصنعانية في النصف الثاني من القرن الخامس عشر. ويُعتبر ديوان “مبيتات وموشحات” للشاعر محمد بن شرف الدين (1524- 1604) أول ديوان شعر حُميني بمسمى صنعاني.
لماذا انتظرت الأوساط الأدبية في صنعاء نحو ثلاث قرون لتبني الموشح رغم وجوده السابق؟ بعد انهيار مركز الغناء في زبيد وتعز، انتقلت هذه المسؤولية إلى صنعاء، فأصبحت مركزاً للموشح، بل تم ربطه بتراثها الغنائي، لكن كان لها أيضاً دور سياسي بعد انهيار المركز المناوئ.
الموشح الحُميني ينطوي على صراعات قديمة، فالأئمة والنخبة الدينية ربما كانوا سبباً في عدم الاعتماد عليه في صنعاء لفترة طويلة.
الموشح ينتمي إلى العرب في الأندلس، لكن من الصعب تأكيد ظهور هذا الفن هناك بدقة. ومع ذلك، أصبح منذ القرن الحادي عشر فنًا رائجًا في عصر ملوك الطوائف، ولم يُستخدم في المشرق العربي خلال الحكم الفاطمي.
هل كان الفاطميون عائقاً في مصر؟
يُعزى الموشح إلى عرب الأندلس، لكنه كان فنًا مهجورًا في البلاد الشرقية حتى سقوط الحكم الفاطمي. قد يكون البلاط الفاطمي قد أثر على هذا الفن بسبب صراعاته مع حكم الأندلس الأمويين.
أول شاعر مشرقي بدأ بنظم الموشح في مصر هو ابن سناء الملك (ت 1212) الذي كتب أشعارًا كلاسيكية في ذلك السياق. ومع ذلك، أصبح الموشح رائداً وشائعاً، وانتقل لأرض الشام والشرق بعد صعود الأيوبيين.
أصل التوشيح الدارج
يُعتقد أن الموشح الحُميني نشأ في أحضان الزوايا الصوفية في زبيد، حيث اقترن بالممارسات التهامية. يُعتبر الشاعر أبوبكر عيسى بن حنكاش (ت 1266) الأقدم في كتابة الموشح. أغلب الظن أن الموشح انتشر بلهجة الحواضر في الأندلس، وسُمي “زجل”.
الموشح تطور في عصور مختلفة، ويعد ابن قزمان (ت 1160) رائداً في إبداع هذا الشعر، رغم أن شعر الموشح الحُميني عرف انتشارًا كبيرًا خلال عصور الأيوبيين.
ازدهار في رعاية البلاط
رغم استخدام الكلام الدارج في الشعر العربي قديمًا، إلا أنه لم يكن ليجد البيئة المناسبة في البلاطات التقليدية، حتى بدأ يُستخدم في عهد المرابطين وبدايات الأيوبيين.
واصل الموشح الانتقال ليصبح جزءًا من الأدب في صنعاء، خاصة مع المساهمة الكبيرة للرسوليين الذين أخذوا الفن عن الأيوبيين.
حب من صنعاء وحلم العودة إليها
مثل وصول الجيش الأيوبي من مصر نقطة انطلاق جديدة، فإن وصول الجيش المملوكي من مصر كان سببًا لانهيار هذا المركز عام 1517.
تعاقبت فترات شعر الموشح الحُميني، وكان الشاعر محمد بن علي السودي (ت 1525)، المعروف باسم عبدالهادي، من أبرز الشعراء خلال تلك الفترة.
مسعى السودي في تجسيد التقاء الثقافات الشعرية أفسح المجال لتطور الموشح، إذ كانت موشحاته تمزج بين لهجات مختلفة من تهامة وصنعاء.
تشريع الموشح كفن أدبي
يرى البعض أن ارتفاع قيمة الموشح الحُميني يعود إلى جهود الشاعر محمد بن شرف الدين، الذي جاء ليعيد الألق لهذا النوع من الشعر بعد فترات من الإهمال.
كان الموشح الحُميني ينبض بحياة جديدة في وسط صنعاء، حيث تحولت المدينة لمركز الغناء اليمني بعد قرون من النبذ.
إعادة النسب إلى حمير
أما في سياق البحث عن الهوية، سعت صنعاء لاستعادة موقعها السياسي بعد انهيار المنافسين، وفي محاولات كثيرة لنسب الموشح إلى تراث أقدم، مثل العهد الحميري.
ومع ذلك، تبقى القيمة الأدبية للموشح الحُميني في السياق التاريخي محاطة بالمسائل السياسية، مما تعكس تشعبات العلاقات الثقافية والسياسية في اليمن على مر العصور.
رابط المصدر