بينما، مفارقة أن أفغانستان كانت من أوائل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة إذ انضمت إليها في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1946، وكان لدى الوفد الأفغاني لدى المنظمة الدبلوماسي عبد الرحمن بجواك شرف رئاسة الجمعية العامة خلال فترتي 1966 و 1967.
ودانت الأمم المتحدة الغزو السوفياتي لأفغانستان في ديسمبر/كانون الأول 1979، وظلت المنظمة الدولية نشطة في أفغانستان من خلال بعثتها في العاصمة كابل وتقديم الخدمات الإغاثية للنازحين الأفغان في باكستان.
وفي الناحية السياسية، توسطت الأمم المتحدة من خلال مبعوثها الخاص دييجو كوردويز في توقيع اتفاقية جنيف في أبريل/نيسان 1988، والتي فتحت الباب لانسحاب القوات السوفياتية في 15 فبراير/شباط 1989.
سنوات الصراع الداخلي
وقبل سقوط حكومة حزب الشعب الديمقراطي الموالي للاتحاد السوفياتي في 28 أبريل/نيسان 1992، بذل المبعوث الخاص للمنظمة الدولية إلى أفغانستان بينون سيفان مساعٍ لتسهيل انتقال السلطة إلى حكومة مؤقتة، لكن انهيار حكم الرئيس نجيب الله ودخول فصائل المجاهدين الأفغان إلى كابل أدى إلى تقويض تلك الجهود.
وفيما بعد، ظهرت حركة طالبان في 1994، قبل أن تستولي على الحكم في سبتمبر/أيلول 1996، ولكن الأمم المتحدة لم تعترف بحكومة طالبان ولم تُسلم مقعدها لها، رغم استمرار نشاطها في البلاد من خلال بعثتها في كابل ومؤسستها الصحية والإغاثية.
الغزو الأمريكي
وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، قرر الرئيس الأمريكي -آنذاك- جورج بوش الابن غزو أفغانستان، حيث قصفت القوات الأمريكية والبريطانية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول مواقع طالبان في كابل وقندهار وغيرها، حتى تمت إطاحة حكومة طالبان في 17 ديسمبر/كانون الأول 2001.
ويرون المراقبون أن الأمم المتحدة
وفرت غطاء سياسيا لغزو أفغانستان من قِبَل التحالف وحلف شمال الأطلسي، برئاسة دولة الولايات المتحدة الأميركية؛ حيث تم توقيع اتفاقية بون في الخامس من ديسمبر/كانون الثاني 2001، بحضور السفير الخاص للأمم المتحدة لشؤون أفغانستان الأخضر الإبراهيمي.
تم تشكيل الإدارة المؤقتة برئاسة حامد كرزاي، وأشارت الاتفاقية أيضاً إلى تشكيل قوة دولية من الناتو تحت اسم “آيساف”، التي انضمت – إلى جانب القوات الأميركية – في محاربة حركة طالبان تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
تم في وقت لاحق توسيع بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان تحت اسم “بعثة الأمم المتحدة لدعم أفغانستان” (يوناما)، والتي أصبحت وكالة للأنشطة السياسية للأمم المتحدة في البلاد؛ كما أن معظم ما أرادت الولايات المتحدة وحلفاؤها تنفيذه في أفغانستان تم تنظيمه من خلال “يوناما”، مما جعل الأمم المتحدة تواجه حركة طالبان مباشرة.
وهنا يقول قائد في حركة طالبان تحفظًا على ذكر اسمه: “إن الأمم المتحدة كانت داعمة لحرب الولايات المتحدة الأميركية على أفغانستان على مدى العقدين الماضيين”.
ويتهم القائد – في مقابلته مع الجزيرة نت – الأمم المتحدة بـ”تزويد الشرعية الدولية لارتكاب جرائم ضد شعبنا تحت مسمى مكافحة الإرهاب”.
عودة طالبان إلى الحكم
وبعد عودة حركة طالبان إلى الحكم في 15 أغسطس/آب 2021، وعلى الرغم من عدم اعتراف المجتمع الدولي بالحكومة الحالية القائمة بتصريف الأعمال – التي تُشير إليها الأمم المتحدة في وثائقها بـ “سلطة الواقع” -، فإن عمل الأمم المتحدة في أفغانستان ما زال مستمرًا من خلال “يوناما” وغيرها من الهيئات والمؤسسات الدولية.
تتعامل الأمم المتحدة مع حكومة طالبان بدون الاعتراف بها، وبالتالي لا تُمنح مقعدًا لها في الاجتماعات السنوية للمنظمة منذ عام 2021، حيث لم تقبل المنظمة الدولية تعيين محمد سهيل شاهين، مندوبا عن أفغانستان.
والمفارقة تكمن في أن الذي يمثل أفغانستان حاليًا كقائم بالأعمال في الأمم المتحدة هو عضو سابق بالبعثة التابعة للنظام السابق الذي لم يعد موجودًا في الواقع.
مطالبات واتهامات متبادلة
ولا شك أن هذا الموقف من قِبَل الأمم المتحدة هو أحد أسباب التوتر بينها وبين حكومة التصريف في كابل؛ حيث تعتبر الحكومة حقها تعيين المرشح، في حين تشترط الأمم المتحدة اعتراف حكومة التصريف بكونها الحكومة الشرعية لأفغانستان قبل توليها هذا المقعد الدولي.
ونظرًا للمطالب المستمرة من قبل طالبان بالاعتراف بحكومتها وقبولها عضوًا في الأمم المتحدة، تطالب الأمم المتحدة طالبان بحماية حقوق الإنسان وتحرير المرأة من القيود التعليمية والعملية، بالإضافة إلى تشكيل حكومة شاملة تضم أعضاء من خارج طالبان.
يعبر مسؤولون دوليون عن مخاوفهم من وجود جماعات في أفغانستان يصفونها بـ “الإرهابية”.
في المقابل، تكرر حكومة طالبان موقفها من مطالب الأمم المتحدة بأن “إمارة أفغانستان الإسلامية تحترم حقوق الإنسان ولا تنتهكها، وأن المرأة الأفغانية تحظى بكامل حقوقها وفقًا للشريعة الإسلامية”.
وتؤكد طالبان أيضًا أن حكومتها التي تصرف الأعمال “شاملة وتضم كافة فئات الشعب”، مشددة على أن الدول والمنظمات الدولية يجب أن تتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية لأفغانستان، وعلى عدم فرض نمطية النظام الحكومي وطرق تنفيذه عليها.
يتهم المتحدث الرسمي باسم حكومة تصريف الأعمال ذبيح الله مجاهد، بأن بعثة الأمم المتحدة في أفغانستان تثير قلق النساء الأفغانيات وتنشر الشائعات.
كما ترفض حكومة تصريف الأعمال أي شروط خارجية بشأن نوعية النظام الحاكم، ويقول مجاهد: “قمنا بتنفيذ جميع شروط الاعتراف الدولي، ونحن لا نقبل بالنموذج الذي تقترحه الدول الأخرى لطبيعة النظام الحكومي في أفغانستان”.
ويكرر المسؤولون في حكومة طالبان في مناسبات مختلفة أن أفغانستان اليوم لا تشكل تهديدًا لأمن أي دولة أخرى، وأن الأبرز الجماعات المسلحة – وهي تنظيم الدولة – تعرضت لهزيمة فادحة في أفغانستان، مشيرين إلى أن الحديث عن وجود جماعات إرهابية في أفغانستان “مجرد دعاية مغرضة، حيثُ يهدف من ورائها الترويج لتلك الجماعات وتضخيمها”.
غياب حركة طالبان
ضمن جهود الأمم المتحدة المعلنة لإجراء حوار مع ما يُسمى “سلطة الوضع الراهن في أفغانستان” لدمجها في المجتمع الدولي، استضافت المنظمة الدولية عدة اجتماعات لمناقشة الوضع في أفغانستان، آخرها الاجتماع الذي دعت إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش في الدوحة في 18 و19 فبراير/شباط الحالي، وشهد حضور ممثلين عن 26 دولة، ورُفِضت دعوة حكومة تصريف الأعمال بشكل مستقل للمشاركة، مشترطة أن تكون هي الجهة الأفغانية الوحيدة.
وجاء في بيان وزارة الخارجية الأفغانية: “أوضحنا للأمم المتحدة أن مشاركة الإمارة الإسلامية بصفتها طرفا مسؤولا وحيدا نيابة عن الشعب الأفغاني، قد تسهم في تيسير إجراء مناقشات شفافة حول كافة القضايا، وعلى مستوى عالي بين الوفد الأفغاني والأمم المتحدة”.
وأشار بيان الخارجية الأفغانية إلى ضرورتها عدم مشاركة وفد من المجتمع المدني وممثلات عن النساء الأفغانيات في اجتماع الدوحة، الأمر الذي استنكرته الأمم المتحدة – من خلال أمينها العام- كمنعٍ لحقها في التحدث مع ممثلين آخرين عن الشأن الأفغاني، واعتبرت طلبات حكومة طالبان “تشبه إلى حد كبير مطالب الاعتراف”.
رفض حركة طالبان لممثل أممي
تسعى الأمم المتحدة إلى تعيين مبعوث خاص لأفغانستان استنادًا إلى توصية المنسق الخاص للمنظمة فريدون سينيرلي أوغلو، الذي اقترح – في تقييمه المستقل للوضع الأفغاني- “تعيين مندوب خاص لأفغانستان متخصص في الدبلوماسية بين أفغانستان والأطراف الدولية، بالإضافة إلى تعزيز الحوار بين الأفغان”.
اعتمد مجلس الأمن هذه التوصية في قراره رقم “2721”، وطلب في ديسمبر/كانون الأول الماضي من الأمين العام للأمم المتحدة تعيين مبعوث جديد.
في المقابل، ترفض حكومة كابل تعيين ممثل جديد للأمم المتحدة في ظل وجود بعثة للمنظمة في البلاد. وأكد وزير الخارجية بالإنابة في حكومة تصريف الأعمال المولوي أمير خان متقي هذا الموقف خلال لقاء مع القائم بأعمال السفارة البريطانية في أفغانستان روبرت ديكسون.
يرى مراقبون أن سبب رفض طالبان لتعيين مبعوث أممي آخر يعود إلى فتح باب التفاعل مع أطراف أفغانية أُخرى من قبل المنظمة الدولية، ما يُضعف موقف طالبان التي تعتبر نفسها الجهة الوحيدة المفروض التفاعل معها في أفغانستان.
ويرى آخرون أن طالبان ترفض تعيين مبعوث أممي جديد لمَنْع اتساع المضمون الدولي المتداول حول القضية الأفغانية وخطر أي تدخل خارجي يمكن أن يُؤثر سلبًا على الشأن الأفغاني.
فيما يقول الناشط السياسي الأفغاني محمد عظيم آبرومند أن المبعوث الخاص للأمم المتحدة ليس شخصًا فقط، “بل هو آلية كاملة متكاملة داخل أفغانستان”.
ويضيف أن مستشاري طالبان مدركون تمامًا أن قبول ممثل أممي قد يُحد من سلطة الحركة السياسية على المستوى الوطني، حيث إن الممثل الخاص للأمم المتحدة سيجري اتصالات ولقاءات مع شخصيات وجهات في الداخل والخارج، مما سيتسبب في توسيع نفوذه، وهو ما لا ترغب به طالبان.
مستقبل التعاون بين الأمم المتحدة وطالبان
من المقرر عقد جلسة خاصة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الوضع في أفغانستان في القريب العاجل بحضور الأمين العام للأمم المتحدة، مُناقشة نتائج اجتماع الدوحة.
وتُؤكد الممثلة الأممية الخاصة لأفغانستان روزا أوتونباييفا أن الأمم المتحدة ستواصل الحوار مع طالبان لتحفيزها على التزام المعايير الدولية لإعادة أفغانستان إلى قيادتها الشرعية في المجتمع الدولي.
وتشدد على ضرورة استثمار المجتمع الدولي بشكل أكبر في استعداد “سلطات الوضع الراهن” للاشتراك في الحوار.
وتُشير الممثلة الأممية إلى أن الحوار لا يعني الاعتراف، ولكن يُمكن استخدامه للتعبير عن الاعتراض والتشجيع على التغيير.
ويرى مراقبون أن العلاقة بين الأمم المتحدة وحكومة طالبان ستظل تتخبط بين التوتر والجذب دون أن تصل إلى حد الانقطاع بين الطرفين أو الاعتراف بالحركة، على الأقل في المدى المنظور.