الكنيسة القبطية وإسرائيل.. أزمة اللاهوت في سعيها نحو التوازن بين العروبة والإنجيل
### بيان الكنيسة القبطية عن الأحداث الأخيرة
في صباح الثامن من أكتوبر 2023، بعد يوم واحد من هجوم المقاومة الفلسطينية على الجيش الإسرائيلي والمستوطنات بالقرب من قطاع غزة، أصدرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية برئاسة البابا تواضروس الثاني بيانًا، عبّرت فيه عن استنكارها “للأحداث الجارية بين الطرفين”، والتي تؤدي إلى “إزهاق مئات الأرواح وإصابة الآلاف، بينهم الكثير من المدنيين الأبرياء”. وخصصت الكنيسة جزءًا من البيان للإشادة بجهود الدولة المصرية الهادفة إلى “التهدئة بين طرفي النزاع”.
### مواقف سابقة للكنيسة تجاه الصراع
لم تكن لهجة البيان جديدة، فقد تكررت مواقف الكنيسة تحت إدارة البابا تواضروس، حيث كانت هناك أحداث مشابهة قبل ثلاث سنوات في القدس عقب إجبار الحكومة الإسرائيلية لعائلات فلسطينية على إخلاء منازلها في حي الشيخ جراح. ورغم أهمية البيانات التي أصدرتها الكنيسة في تلك الفترة، إلا أن موقفها ظل ضعيفًا مقارنة بموقفها التاريخي تجاه القضية الفلسطينية والذي يصوّر العداء لإسرائيل.
### العداء لإسرائيل: من العصور القديمة إلى اليوم
تاريخ الكنيسة القبطية يشهد على عدائها لإسرائيل، حتى قبل مشاركة البابا شنودة الثالث في حرب فلسطين، عندما كانت الكنيسة تدين الاحتلال والتواطؤ الغربي، استنادًا إلى فهم لاهوتي عميق. المفكر القبطي غالي شكري، في كتابه “الأقباط في وطن متغير”، أشار إلى تسعة مؤلفات قبطية تدحض مزاعم إسرائيل منذ عام 1966.
### الانقسام الداخلي والصراع الفكري
على الرغم من تأكيد غالبية الأقباط لمبادئهم أمام المسيحية الصهيونية، إلا أن هناك تيارًا داخليًا يدعو للعزلة عن القضايا العربية والإقليمية. التاريخ يظهر أن الكنيسة القبطية لم تسمح للمسيحية الصهيونية بالدخول إلى مصر، رغم بعض الضغوط الداخلية التي قد تتعرض لها.
### رسوخ الموقف القبطى وروح التسامح
يبقي البابا شنودة الثالث رمزًا لموقف الكنيسة ضد الانفصال عن المجتمع العربي والإسلامي، حيث قال: “لن ندخل القدس إلا مع إخوتنا المسلمين”، مما ينعكس على استمرار موقف الكنيسة المتمسك بعروبتها.
### الوعي القبطي تجاه الصهيونية المسيحية
ظهرت أولى ملامح الوعي القبطي بخطورة تيار الصهيونية المسيحية منذ منتصف القرن الماضي، حيث قاد البابا كيرلس السادس، الذي تولى رئاسة الكنيسة من 1959 إلى 1971، هذا الاتجاه مع جيل معروف باسم جيل مدارس الأحد. كان من أعلام هذا الجيل الأنبا شنودة (البابا شنودة الثالث)، والقمص الراهب متّٰى المسكين، والأنبا غريغوريوس، الذين تركوا بصمة واضحة في تاريخ الكنيسة القبطية.
مواجهة المسيحية الصهيونية
خلال الفترة من الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات، أسست الكنيسة القبطية تيارًا لاهوتيًا عربيًا لمواجهة المسيحية الصهيونية في اجتماعات مجلس الكنائس العالمي، حيث اتهمت المجلس بالانحياز للمصالح الإسرائيلية. ويتجلى ذلك في مذكرات الأنبا غريغوريوس الذي مثل الكنيسة القبطية في تلك الاجتماعات.
الصهيونية المسيحية وتوظيفها السياسي
تعتبر المسيحية الصهيونية حركة سياسية تسعى لربط التراث الاستعماري برؤى دينية تسود بين بعض الجماعات الأمريكية البروتستانتية. حيث تروج لفكرة أن بناء الهيكل اليهودي في القدس هو شرط أساسي لعودة المسيح، مما يتناقض مع التفسيرات التقليدية للعهد الجديد. ويعرّف الدكتور القس منذر إسحاق الصهيونية المسيحية بأنها “لاهوت إمبراطوري” أكبر من مجرد معتقد.
التحولات في موقف الكنيسة القبطية
خلال السنوات الأخيرة، شهدت الكنيسة القبطية تراجعًا في دورها بالتزامن مع تغييرات عالمية، حيث كثيرا ما انتقدت بأنها اكتفت بمواجهة المذاهب المسيحية الغربية، مما أثر سلبًا على تأثيرها في مجتمعاتها.
التوجه العروبي لمدارس الأحد
على النقيض من الموقف الرسمي الحالي للكنيسة، كان لجيل مدارس الأحد في الحقبة الناصرية رؤية قوية حول عروبة المسيحيين العرب، مما دفعهم للتعبير عن موقف وطني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وكان هذا مدعومًا من البابا كيرلس السادس، الذي بعث برسائل تأكيد على عروبة القدس.
ثوابت البابا شنودة في القضية الفلسطينية
عند توليه كرسي الباباوية عام 1971، كان البابا شنودة ملتزمًا بمواقف مناهضة لإسرائيل، حيث رفض سفر السادات إلى إسرائيل وفرض قيودًا على زيارة الأقباط للقدس. لكن مع مرور السنوات، شهدت هذه المواقف بعض التغييرات بسبب العلاقة المتغيرة بين الكنيسة والدولة.
النهاية
توفي البابا شنودة عام 2012، لكن تأثيره في القضايا الوطنية لا يزال محسوسًا. فقد اتسمت مواقفه بالعروبة والثبات على الحق الفلسطيني، في ظل ظروف صعبة وتغيرات سياسية واقتصادية أثرت على الديناميات الداخلية للكنيسة.تحليل العلاقة بين الكنيسة القبطية وإسرائيل
ألقت أحداث عدة في التاريخ المصري، لا سيما المواقف الدينية والسياسية، بظلالها على العلاقات بين الكنيسة القبطية ودولة إسرائيل. حيث سمحت الدولة ببناء المزيد من الكنائس وعبّرت عن تعاملها بشكل أكثر مسؤولية تجاه بعض الأزمات الطائفية، وذلك في مقابل تأييد البابا للرئيس المصري وحزبه الوطني في الانتخابات.
استراتيجيات البابا شنودة
اعتمد البابا شنودة أساليب أكثر تأثيرًا لتجنب الاستفزاز، كتركيزه على “هدم الصورة الذهنية الإسرائيلية” في المخيلة الشعبية المصرية، كما ذُكر في رسالة الباحثة ياسمين كمال. تمت هذه المواءمات مع توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993، حيث كانت الكنيسة تأمل في زيارة الأقباط المسنّين للأراضي المقدسة رغم التحفظات. وتعرض الأقباط للشجب في الصحف في حال خالفوا قرار البابا بزيارة القدس، حيث كانت المخالفة تعني عقوبة الحرمان الكنسي.
الكنيسة وموقفها من التطبيع
هناك من يعتقد أن موقف البابا شنودة من التطبيع جاء نتيجة صراعه مع السادات، حيث قرر أن يقترب من القوى السياسية والشعبية المعارضة لاتفاقيات كامب ديفيد، مما عزز شعبيته. ومع ذلك، فإن للكنيسة تاريخًا واضحًا في مناهضة المشروع الإسرائيلي، وخاصة في الستينيات، إذ انعكس ذلك في كتابات الأب متّى المسكين.
الأب متّى المسكين: صوت المقاومة القبطية
يُعتبر الأب متّى المسكين من أبرز المعلمين في الكنيسة، وكتب العديد من المؤلفات التي تستنكر الوجود الإسرائيلي. بعد هزيمة يونيو 1967، أصدر كتابين تناولا رؤيته حول الوجود الإسرائيلي. أول المؤلفات “ما وراء خط النار” انتقد فيه المفاهيم الإسرائيلية التي تم الترويج لها بدعم القوى الغربية الاستعمارية، مُشيرًا إلى أن تلك الروايات استندت إلى معاناة اليهود التاريخية، وضرورة عدم اعتبار إسرائيل الوعد الإلهي للذين يعيشون فيها.
تحذيرات ضد الخطاب الإسرائيلي
في كتابه، أشار متّى المسكين إلى أن الاعتراف بوجود إسرائيل على أرض عربية هو خطر عظيم، وقال إن العهد القديم والإنجيل لا يدعمان فكرة تأسيس دولة يهودية. اتهم أيضًا الكنائس الغربية بترويج السردية الإسرائيلية، مؤكدًا أنها تحت الضغط الإسرائيلي تسعى لتبرير الدعم لإسرائيل.
فوائد الوحدة العربية
اعتبر متّى المسكين الوحدة العربية وسيلة للخلاص من الاحتلال الإسرائيلي، وجدد فلسطين كقضية مركزية للعرب. كما أشار إلى أن زرع إسرائيل في المنطقة هو جزء من مخطط أكبر يهدف إلى تفتيت الدول العربية.
التغير بعد كامب ديفيد
على الرغم من أن مواقف متّى المسكين كانت سائدة حتى السبعينيات، إلا أن العلاقة بينه وبين الدولة المصرية تغيرت بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1981، حيث تم تهميش بعض كتاباته وتوقفت طباعتها، باستثناء كتاب واحد بعنوان “إسرائيل في العهد القديم”، والذي أُشير فيه إلى عدم ارتباطه بدولة إسرائيل الحديثة.
أكتوبر والأسئلة الكبرى
بقيت أسئلة عديدة حول الثوابت السياسية والدينية تُطرح من جديد بعد أحداث أكتوبر، مما يعكس استمرار الحوار حول العلاقات الإسرائيلية العربية وتأثيرها على التركيبة الاجتماعية والدينية في مصر.# الكنيسة القبطية وإسرائيل: صراع اللاهوت بين العروبة والإنجيل
تحول في الموقف القبطي تجاه زيارة القدس
توفي البابا شنودة عام 2012، ومنذ وفاته انفتح الأقباط على فكرة زيارة القدس، حيث تغير الخطاب الكنسي ليصبح أكثر تشجيعًا لتلك الزيارات. في إحدى المقابلات التلفزيونية، صرح البابا تواضروس الثاني بأن زيارة المسيحيين المصريين للقدس تُعتبر “زيارة للسجين وليس للسجان”، ملمحًا إلى تغير الموقف الرسمي للكنيسة.
زيارة البابا تواضروس وتأثيرها على الخطاب الكنسي
في عام 2015، قام البابا تواضروس بزيارة إسرائيل، وكانت هذه الزيارة نقطة تحوّل تلتها زيارات متعددة للرهبان والأساقفة، مما أدى إلى نسيان قرار عام 1980 الذي كان يمنع تلك الزيارات. ومع ذلك، فإن الخطاب القبطي المعاصر يفتقر إلى الوقوف أمام المسيحية الصهيونية، وهو ما يعكس غياب القضية الفلسطينية عن الأجندة الكنسية المصرية.
تغيرات جيلية وتأثيرها على الموقف من القضية الفلسطينية
تتمثل إحدى الأسباب وراء هذا التحول في تغير الأجيال القيادية في الكنيسة؛ حيث انتقل التأثير من جيل الأربعينيات الذي عاش أحداث الصراع مع إسرائيل إلى جيل البابا تواضروس الذي يتسم بالعزلة عن قضايا المجتمع. يضاف إلى هذا، تأثير صعود حركات إسلامية مثل حماس، مما دفع بعض الأقباط للاعتقاد بأن القضية الفلسطينية هي صراع إسلامي-يهودي.
تصاعد الخطاب اللاهوتي المقاوم
على الرغم من التحديات، فإن هناك توجهًا لاهوتيًا مقاومًا يتزعمه بعض الكنائس الأرثوذكسية، مثل كنيسة الروم التي يقودها المطران عطا الله حنا، والذي أكد خلال لقاء مع وفد أمريكي أن “المسيحية الصهيونية” ليست لها وجود في المفاهيم المسيحية. وقد طالب بالمزيد من الانخراط المسيحي في دعم القضية الفلسطينية.
الحاجة إلى لاهوت فلسطيني
يعبر القس والأكاديمي منذر إسحاق عن أهمية تطوير “لاهوت فلسطيني” يتماشى مع هموم الشعب الفلسطيني، مشيرًا إلى تجارب لاهوتية مماثلة ناجحة في سياقات أخرى. لكن التحديات المستمرة التي يواجهها المسيحيون العرب، مثل المعاناة من الظروف السياسية والاجتماعية، تمثل عقبة أمام هذا التطور.
أهمية التضامن مع القضايا العادلة
يؤكد المراقبون أن ضعف الكنيسة في مواجهة الهيمنة الغربية ودعم نضال الشعب الفلسطيني يمكن أن يؤثر سلبًا على وجودها. تعزيز الحوار والوجود في نضالات مشتركة قد يساعد على تضمين المسيحيين في المسائل العامة وكسر حواجز العزلة.
التحديات أمام الكنائس الإنجيلية
تواجه الكنائس الإنجيلية العربية تحديات إضافية بسبب اعتمادها على التفاسير الحرفية للنصوص المقدسة، مما يجعلها تحت ضغط بخصوص القضايا السياسية الراهنة. ولكن هناك دعوات من القيادات الإنجيلية الفلسطينية لضرورة وجود لاهوت يتصدى للدعاية الصهيونية ويعبر عن واقع معاناة الشعب الفلسطيني.
الخلاصة: مستقبل اللاهوت والعقيدة في ظل التغيرات الجارية
في ختام الأمر، فإن التحديات تتزايد أمام المسيحيين والعالم ككل، حيث يبقى التأثير الغربي والدعم لإسرائيل يشكلان خطرًا على جوهر المسيحية، كما أشار الأب متّى المسكين. إن فهم الأمور من منظور العدالة والمساواة هو الطريق للتفاعل والتقدم.