بناء حي شبرا يعود إلى عام 1808 حين أراد محمد علي باشا حاكم مصر بناء قصره الأول بعيدًا عن العاصمة، ليستريح فيه ويبتعد قليلًا عن ضغوط السياسة، وتحسبًا للفوضى التي كانت تحدثها المماليك في القاهرة، وقد بنى محمد علي باشا قصره في هذا المكان، وهنا بدأت “شبرا الخيمة” كواحدة من أشهر الأحياء في مِصْر، والتي نشأت حول هذا القصر، ورغم ذلك، فإن شاطئ شبرا على النيل كان متنزّهًا منذ العصر المملوكي، وعاش فيه العديد من المماليك وبنوا فيه قصورهم.
قبل سنتين تقريبًا من مذبحة القلعة الشهيرة التي أدت إلى انتهاء كل المماليك في مصر عام 1811 كمصير واحد، أراد محمد علي باشا توثيق فترة حكمه بقصر يمثّل انتقالًا ما بين حقبة وأخرى، وبشىء جديد يعتزم أن يطيله، لذلك اختار موضعًا على شاطئ النيل في شبرا ممتد على مساحة 70 فدّانا، من ساحل النيل إلى بركة الحاج، بعد أن احتل عدة قرى وعقارات لبناء قصره.
القصور الحديقيّة
تم تصميم القصر بنمطٍ جديد من العمارة يأخذ طابع “قصور الحدائق” الشهيرة في تركيا على سواحل البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة. يعتمد هذا التصميم على حديقة شاسعة تحاط بها سور ضخم يُفصلها ببوابات قليلة، وتوجد في هذه الحديقة عدة مبان، كلٌ منها يحمل سماتٍ معمارية خاصة، وظلت هذه القصور شاهدة على العصور، ويُعتبر قصر الفسقية من بين أفضلها وأجملها، ويُعتبر قصر الفسقية معلمًا فريدًا في مجال العمارة، واشتهر باسمه بسبب وجود نافورة كبيرة فيه ويُعتبر أروع قصور مصر بعد قصر الطاهرة.
في بناء قصر شبرا، استعان محمد علي باشا بفنّانين من فرنسا وإيطاليا واليونان وأرمينيا لزينة قصره، أدمج القصر بين الطراز الأوروبي في الزخارف وبين روح العمارة الإسلامية في التخطيط. وتم تصميم القصر على غرار المساجد، حيث تحيط به 4 إيوانات كبيرة تُظهر كأنها حوشٌ لمسجد.
ٍيقول خالد عزب خبير في التراث للجزيرة نت “من حظّي أن كان دراسة قصر شبرا جزءًا من أطروحة دكتوراه، حيث تم تصحيح الكثير من المعلومات التاريخية والأثرية المحيطة بهذا الأثر المهم. نحن لا نتحدث عن قصر فحسب، بل عن مجموعة من القصور بنيت في فترات مختلفة، بدأها محمد علي باشا وأكملها خلفاؤه، والتي كانت تُطل على النيل مباشرة، حيث بدأت من ‘كشك’ كما كان يُعرف القصر حينها، والذي كان يقيم فيه الولاة خلال العهد العثماني عندما ارتأوا التنزه”.
ويضيف عزب: “حين تولى محمد علي حكم مصر، شرع في بناء العديد من المباني في هذا الموقع عام 1223هـ/1808م، حيث أصبح قصر شبرا مكان إقامته المفضّل في آخر فترة حكمه، خاصة بعد احتراق سراي الأزبكية في العام 1840، و استمر البناء إلى حوالي 13 سنة، بدأً من عام 1808 حتى عام 1821”.
مقر الحكم لمصر والسودان والشام
أصبح قصر شبرا المقر الرئيسي للحكم اعتبارًا من عام 1820، حيث كان منه يدير محمد علي شؤون مصر والسودان والشام، وكان يُصدِر منه الفرمانات بأسماء الحملات التي وصلت إلى أقصى النيل، ومن هنا خرجت حملة إبراهيم باشا نحو الحجاز وبلاد الشام. عايش هذا القصر الإصلاحات التاريخية التي قادها محمد علي باشا وأبناؤه خلال فترة حكم مصر. وبعد معركة “نافارين” البحرية التي شهدت هزيمة أساطيل أوروبية، لجأ محمد علي إلى قصر شبرا حتى وفاته.
عدة أسماء ترد في قصة تصميم القصر، لكن الشيء المؤكد هو مشاركة السيد دورفتي قنصل فرنسا في ذلك.
في مصر خلال حكم محمد علي، هو الشخص الذي صاغ هذا السراي، بينما تحدث المهندس الفرنسي باسكال كوست في كتاباته عن كيف طلب محمد علي باشا منه تصميم قصر في شبرا. أظهرت السجلات أسماء بعض المهندسين الذين أشرفوا على بناء السراي، خصوصا سراي الفسقية، ويعتقد أنهم قاموا بتغييرات على التصميم الأصلي الذي لم ينفذ بالكامل، منهم المعماري أمين أفندي، وناظر المباني عمر آغا في سراي شبرا، والمهندس الباشي عبد الله آغا.
ويذكر خالد عزب أن باسكال كوست وضع تصميما يتضمن 4 فناءات وممرات محاطة بالأشجار وبركة مياه كبيرة ومسجدا صغيرا وساحة لسباق الخيول. بدأت أول منشآت هذا القصر بسراي الإقامة، وكان على طول طريق الكورنيش الحالي وكانت به عدة مبان خشبية لموظفي القصر والحراسة بالإضافة إلى مرسى للمراكب على النيل. بدأ القصر في عهده الأول بقلعة الوالي ومباني ملحقة تحوي مسكن البواب ونافورة وشرفة بها فناء الجبلاية، وبركة الفسقية، وحمام شرقي (سراي الفسقية).
تم بناء معمل لإنتاج غاز الإستصباح بعد ذلك وأضيفت للقصر مناطق جمالية مثل الفناء الأخضر من البامبو وطريق مبلط بأشجار الصنوبر وتكعيبة كرم وحديقة الموالح بالإضافة لأشجار الفاكهة ومدخل من شارع شبرا وروضة زهور وحديقة الخضر.
يؤكد عزب أن الوثائق تشير إلى أن القصر كان يتألف من طابقين: شُيد الطابق الثاني لإقامة محمد علي وكانت أغلب غرفه مخصصة لنومه. تشير وثائق الديوان الخديوي إلى تسمية بعض غرف هذا القصر، مما يوحي بأن الطابق السفلي كان يضم السلاملك والفناء أو الفسحة والطابق الثاني الذي يحتوي على غرفتين: واحدة بإطلالة على النيل والأخرى جانبية مع مساحة مسقفة بقبة. وكان مجاورا لهذا الطابق حمام، تم تجديد هذا القصر في عام 1261هـ/1845م وقُدّم سراي شبرا الكبير هدية من عباس باشا لعمه عبد الحليم بك في العام 1851م.
قصر الفسقية
أما قصر الفسقية الذي يعتبر معلما في التصميم والبناء والعمارة، فالوثائق تذكر هذا السراي بإسم “الكشك”، وبدأ العمل فيه عام 1821م حتى 1823م، حيث كان ذو طابق واحد يتخلله 4 أبواب محورية حيث يتم فتح كل باب بسقيفة مدعومة بأعمدة وسقف جملوني. يتوسط البناء حوض أو بركة ينخفض قعرها عن أرضية البناء من الداخل بمقدار 1.5متر.
وتحتوي هذه البركة على فسقية أو نافورة حيث يتم تدفق المياه من النيل بواسطة آلة بخارية من صنع المهندس الإنجليزي “غالواي”. على حافتها توجد تماثيل تماسيح استوردت من خارج البلاد، كما شارك مهندس إنجليزي آخر في أعمال البركة، وربما كان متخصصا في نظام الصرف وتصميم البركة.
وفي الركن الأربعة للبركة وجود 4 تماثيل أسود تصب المياه من أفواهها، وعلى أرض البركة تظهر أشكال للأسماك بتحركات متنوعة وهي تسبح في المياه، كما يحيط بها 4 أروقة على 100 عمود أسطواني.
يتضمن بناء قصر المفتاح العديد من الغرف، مثل “غرفة العرش والأسماء (أسماء أسرة محمد علي) والأكل والبلياردو والحديقة، وهذه القاعات هي: قاعة البلوط التي اشتُهِرت بهذا الاسم نظرًا لاستخدام خشب البلوط في تزيين الأسقف والأرضيات، وفي الأرفف الجدارية الثلاثة، وموجود في الزاوية الشمالية والجنوبية مرآة كبيرة في إطار من الخشب المزخرف بالنقش بوحدات تمثل أواني زهور، وتُنهِى الإطار 3 دوايير نصف دائرية، وقد غُلف هذا الإطار بمادة الذهب، وتُعرِف هذه القاعة أيضًا بقاعة الاجتماعات، ومن بين الأعمال الفنية التي يحتويها القصر لوحات تواريخية مرسومة تعود لمحمد علي باشا وأفراد عائلته.
وتُوجد القاعة الثانية مقابل قاعة البلوط على الناحية الغربية للرواق الجنوبي، وهي قاعة الأكل (السفرة) ومِسقطها متعدد الأضلاع غير المنتظمة من الداخل، وقد تلمَعت زواياها، وانفتحت كل زاوية لنافذة تُطل على الحديقة، وشُيَن السقف بأشكال هندسية مُذهَبة بها رسوم طيور وحيوانات ونساء، وفي المركز يتدلى صُرَة خشبية مذهبة مزخرفة بالنقش العميق، وينقسم إزار السقف إلى قوالب زخرفية.
والقاعة الثالثة، قاعة البلياردو: توجد في الركن الشمالي الغربي لمبنى سراي المفتاح، وهي قاعة مُستطيلة، بالجدار الشرقي شُهية متسعة تتوجها دائرة نصفية، رُسم فيها معبد مصري قِديم، وعلى كل من الحائطين الغربي والجنوبي 3 نوافذ، والسقف مزخرف بأشكال هندسية ونباتية ورسوم نساء، وفي المركز صُرَة من الخشب المذهب المزخرف بالنقش العميق، وتأخذ واجهة قاعة البلياردو وتكملاتها رُبع دائرية.
والقاعة الأخيرة هي قاعة العربية: توجد في الركن الشمالي الشرقي، وأُطلِق عليها اسم القاعة العربية نظرًا لهيمنة الزخارف العربية عليها، ومتعددة الأضلاع، بزوايا هندسية مدببة، كل زاوية مُنزّهة بنافذة، يُزَيِّن سقف القاعة بزخارف نباتية مُذهبة ومُلونة بألوان مُتعددة، وقد تم تضمين زخارف كتابية بها أسماء محمد علي باشا وإبراهيم باشا، وسُجِّل عليها التاريخ 1270هـ/1853م.
سراي شبرا الصغيرة
تنوّعت القصور التي أقامها محمد علي وخليفته كملاحق وتابع لقصر الإقامة. في 19 محرم 1250هـ/29 مايو/أيار 1843م، أُصِدِرَ أمر رفيع المستوى إلى المشرف على شبرا ببناء قصر للإقامة أو المعروف بـ”كشك” على مساحة تقدر بـ 8 أفدنة في داخل حديقة شبرا.
ويُفسّر حسام إسماعيل أستاذ الآثار في جامعة عين شمس “صدُر الحكم ببناء سراي شبرا الصغير من طابق واحد ويضم 5 أو 10 غرف، وقام المُهندس الأرمني حكيكيان بتصميمات عديدة للكشك المذكور، وطلب محمد علي أن يكون جميع نوافذه مُطِلّة على الحديقة من جميع الاتجاهات الأربعة، وأن تُصنع أعمدة الخشب الضرورية لهذا الكشك في ورشة بولاق، وفي رجب 1251هـ/1835م وضع محمد علي حجر الأساس لهذا الكشك شخصيًا”.
ويُضيف إسماعيل “أما سراي الجبلاية فأُقيم في شكل مستطيل فوق الجبلاية الموجودة في حديقة القصر، مُقابل سراي محمد علي، ووسط القصر يوجد نافورة دائرية من الرخام مُغطاة بقبة مزخرفة بتصميمات نباتية تنقسم إلى 8 مناطق، وفي وسط القبة أشكال زهورية تحُيط بها زخارف نباتية مذهبة”.
من ميزات سراي شبرا الصغيرة أنه يتألف من طابق واحد، ويحتوي على 4 أبواب مركزية، حيث تُزين كل باب سقيفة، وتشغل كل زاوية من البناء غرفة تبرز كبرج من الواجهة. وفي منتصف البناء يوجد حوض يحيط به نافورة تنخفض عن سطح البناء.
أصدر الخديوي عباس حلمي الأول أمرًا في شوال 1266هـ، وافق محمد علي على بناء القصر الجديد، ولكن توفي قبل بدء المشروع، وعندما تولى عباس الحكم، أمر بإكمال البناء.
السواقي والإضاءة بالغاز
تُعد الآيون الملحقة بقصر شبرا إحدى عجائب الهندسة والفن، حيث يُعَد برج الآيون واحدًا من تحف الفن الهندسي، وقد صممه المهندس الإنجليزي برسيد في عام 1227هـ. تتمثل معجزته في ارتفاعه الكبير الذي يولد قوة ضخّ المياه بما يكفي لتشغيل نافورة الفسقية، فضلاً عن تصريف مياه النيل عبر نفق ليصل إلى الآيون ومنها إلى حوض الفسقية بعد تنقيتها لري الأرض. وحتى اليوم، يبقى برج إحدى هذه الآيون.
لأول مرة في تاريخ مصر، تم إضاءة قصر شبرا بغاز الاستصباح على يد المهندس غالوي في عام 1824، وذلك خلال احتفال رسمي في 24 مارس من نفس العام، بعد تأسيس معمل لإعداد هذا الغاز بالقصر. وما زالت بعض أعمدة الإضاءة باقية في سراي الجبلاية.
حديقة شبرا
إذا زين قصر شبرا بالتحف العصرية، فإن حدائقه كانت تُعد من عجائب العمارة والفن التي نشأت في بدايات القرن التاسع عشر. تحتوي الحديقة على بعض المباني المتناثرة مثل مسرح السمر الذي بُني على النمط البيزنطي، بالإضافة إلى العديد من الوحدات المعمارية الخدمية.
تم تأسيس حديقة شبرا في عام 1806، حيث تمتد على مساحة 70 فدانًا شرق قصر شبرا على الطراز المصري، وتضم طرقات مستقيمة واسعة في كل الاتجاهات ومناطق خضراء بين هذه الطرقات زُرعت بأشجار الفاكهة والنباتات الزينة المستوردة من مختلف أنحاء العالم.
شارع شبرا
بعد افتتاح قصر شبرا كمركز رئيسي للحكم في عهد محمد علي، تم تخطيط لربطه بالقاهرة الرئيسية عبر طريقين: الأول يتبع ضفاف النيل، الثاني كانت محمد علي يُطلق عليه “شارع شبرا” امتد من ميدان رمسيس إلى قصر شبرا.
زُرعت الأشجار على جانبي الشارع، وبنيت العديد من القصور على الجانب الغربي، مما سهم في تطور شبرا عمرانيًا. كان هدف محمد علي تحويل هذا الشارع إلى مكان للتنزه والاستجمام خارج العاصمة مصر، ولتحقيق ذلك، جُعل الشارع واحدًا من أكبر الشوارع في مصر في تلك الحقبة.