جذور العائلات وصراع الرواية في معركة الهوية الفلسطينية

منذ نكبة عام 1948، تحوّل الصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي إلى معركة أعمق تتعلق بالهوية والتاريخ.
على مدى عقود، سعى الاحتلال الإسرائيلي لطمس الرواية الفلسطينية، محاولاً استبدالها بسردية تنفي وجود الشعب الفلسطيني وتاريخه العريق، مما شكل تحدياً إضافياً للفلسطينيين وأجبرهم على النضال للحفاظ على هويتهم وتراثهم.
في مواجهة هذه التحديات، ظهرت مبادرات فلسطينية تهدف إلى الحفاظ على الهوية والتراث، ومن أبرزها مشروع “هوية”، الذي يهدف إلى توثيق جذور العائلة الفلسطينية.
تأسس المشروع العام 2011 في بيروت على يد مجموعة من النشطاء الفلسطينيين، ويعمل على جمع الوثائق والصور والشهادات التي تثبت وجود الفلسطينيين المتواصل.
عائلة حلوم حجازي.. نموذج للهوية الراسخة
ولد عبد الرازق حلوم، المعروف باسم راؤول حلوم، عام 1901 في قرية المزرعة الشرقية بفلسطين، ثم هاجر عام 1925 إلى السلفادور وعاد بعد 10 سنوات.
استعاد جنسيته الفلسطينية في عام 1938، بعد أن كان يحمل الجنسية العثمانية، حسب الوثائق الرسمية التي حصل عليها مشروع “هوية”.
تعتبر هذه الوثائق مهمة لتوثيق تاريخ العائلة، حيث أكد الأستاذ ربحي حلوم، ابن شقيق عبد الرازق، أن هذه الوثائق لم تكن متاحة للعائلة من قبل.
تشكل هذه الوثائق دليلاً مادياً على الانتماء والارتباط بالأرض، وهي جزء من المعركة لإثبات الحق التاريخي للفلسطينيين.
زوّد الأستاذ ربحي مشروع “هوية” بمعلومات إضافية عن تاريخ العائلة وقدم شجرة العائلة التي تتفرع من شجرة عائلة حجازي، التي تضم مئات الأسماء.

دور “هوية” في مواجهة الرواية الصهيونية
يشير القائمون على مشروع “هوية” إلى أنهم يعتمدون على مصادر متعددة، بما في ذلك الأرشيفات المحلية والعالمية، وشهادات كبار السن من الفلسطينيين.
يقول ياسر قدورة، مدير المشروع، إن الحفاظ على شجر العائلات الفلسطينية هو جزء من معركة الهوية التي تهدف إلى دحض الرواية الصهيونية التي تدعي أن فلسطين كانت “أرضاً بلا شعب”.
يفيد قدورة أن الاحتلال دائماً ما حاول التشكيك في انتماء الفلسطينيين مستنداً إلى أسماء عائلاتهم التي تدل على أصولهم من دول مجاورة.
يتجاهل الاحتلال أن هذه الهجرات كانت طبيعية عبر التاريخ، وأن الشعب الفلسطيني تشكّل مثل بقية شعوب العالم نتيجة لظروف اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
على عكس ذلك، كان قيام دولة الاحتلال استثناء تاريخياً، لأنه تم على اقتلاع شعب كامل واستبداله بمهاجرين يهود.


تزوير الرواية اليهودية
يشدد مدير المشروع على أهمية ما أورده المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”، حيث كشف عن المساعي الصهيونية لتزوير شجرة النسب اليهودية ودمج المهاجرين من جميع أنحاء العالم في إطار شعب موحد. وقد استخدمت هذه الجهود لدعم قانون “العودة” الإسرائيلي الذي يتيح لأي شخص له جذور يهودية الهجرة إلى فلسطين، في حين يُحرم الفلسطينيون من حق العودة إلى أراضيهم.
تجدر الإشارة إلى أن الاحتلال أقام مؤسسات ضخمة تهتم بتوثيق الأنساب اليهودية، وتركز بشكل ملحوظ على ما يُعرف بـ “تاريخ العائلة”، أحيانًا حتى على المستوى التعليمي في المراحل الابتدائية.
بينما تسعى “هوية” إلى تعزيز الاهتمام بتاريخ العائلة الفلسطينية كوسيلة لتأكيد حق العودة، وتمكنت من توثيق أكثر من 6300 شجرة عائلة، بالإضافة إلى أرشفة 26 ألف وثيقة وأكثر من 38 ألف صورة، منها 5000 صورة لشهود النكبة.

أهمية توثيق العائلات الفلسطينية
تعتبر عائلة حلوم-حجازي مثالًا حيًا للتحدي الذي تواجهه العائلات الفلسطينية من خلال توثيق تاريخها وجمع شجرتها، رغم الصعوبات العديدة. واعتبر قدورة أن “رواية العائلة جزء لا يتجزأ من الرواية الوطنية الفلسطينية، فكل شجرة عائلة موثقة تندرج كوثيقة تدين الاحتلال وتؤكد حقنا في أرضنا”.
مشروع “هوية” لا يقتصر على التوثيق فحسب، بل يسعى أيضًا إلى تعليم الأجيال الشابة من خلال ورش عمل تدريبية، حيث تم تدريب أكثر من 600 شاب وشابة لتوثيق تاريخ عائلاتهم، مما أثمر عن إنتاج روايات فردية تدعم الرواية الفلسطينية الجماعية.

معركة لا تنتهي
تتولى “هوية” وغيرها من المؤسسات والمبادرات الفلسطينية قيادة معركة توثيق الهوية الفلسطينية في مواجهتها للجهود الإسرائيلية الهادفة لطمسها.
تعد هذه المعركة أكثر من مجرد جهد تاريخي، بل هي نضال من أجل المستقبل، إذ أن الحفاظ على جذور العائلات يعكس ارتباط الشعب الفلسطيني بأرضه، ويبعث برسالة واضحة بأن الاحتلال لن يتمكن من محو وجود شعب عريق له تاريخ عميق.
في النهاية، معركة الهوية هي معركة وجود، ولن تنتهي إلا بزوال الاحتلال.