يشكل توجه الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفرض إجراءات حمائية قاسية ضد شركاء بلاده التجاريين أخطر تهديد تواجهه العولمة منذ عقود. غير أن عدم الاعتراف بأن سخطه هو وأنصاره على اتفاقيات التجارة الحرة يحمل في طياته قدراً كبيراً من المنطق لن يؤدي إلا لتأخير مساعي الوصول لحلول تجنب الاقتصاد العالمي ويلات الحروب التجارية في المستقبل.
لسنوات عديدة، دأبت المؤسسات الدولية والعديد من خبراء الاقتصاد على إبراز الدور الإيجابي لتحرير التجارة، بداية من انتشال عشرات الملايين من مواطني الدول النامية من الفقر إلى السيطرة على التضخم في الاقتصادات الغنية نتيجة إغراق الأسواق بمنتجات صينية أو آسيوية بأسعار رخيصة. منحت العولمة فرصاً للشركات الكبرى للاستثمار لتحويل طاقاتها الإنتاجية إلى دول العالم النامي على حساب الدول الغنية، مما ساهم في تعزيز أرباحها من جهة، وخلق فرص عمل في تلك الأسواق الجديدة من جهة أخرى.
كان الشعار الرئيسي هنا أن مكاسب تحرير التجارة تفوق الخسائر، أو أنها على الأقل كافية لتعويض الخاسرين، على اعتبار أن «المد كفيل بتعويم كل المراكب». ذلك أن الافتراض الرئيسي هنا هو أن اندثار صناعات أو مهن معينة بسبب المنافسة التجارية مع الصين أو الهند مثلاً سيدفع الناس إلى شدّ الرحال فوراً إلى وجهات جديدة ومهن مزدهرة في قطاعات تواجه منافسة أقل حدة. غير أن هذه السلاسة «النظرية» لم تترجم واقعياً بما يكفي لعلاج المشكلة. كيف؟ تكشف الدراسات أن غالبية الناس قد تقبل فرص عمل تدر دخلاً أقل من الوظائف التي خسروها مقابل البقاء في مدنهم. تزداد أوضاعهم سوءاً بمرور الوقت، ويتحولون هم وأسرهم إلى رؤوس حربة لأحزاب سياسية مناهضة للعولمة.
اللافت أيضاً أن عدداً من خبراء الاقتصاد المرموقين بدأوا في زرع بذور الشك حول حجم عوائد حرية التجارة للدول الغنية والفقيرة على حد سواء، أو حول الشروط التي رافقت تلك المكاسب، من بين هؤلاء داني رودريك، الاقتصادي الأميركي – التركي الحائز على جائزة نوبل. في أحد كتبه، يشير رودريك إلى أن أبرز النجاحات الآسيوية المعتمدة على التصدير (الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان) جاءت على الرغم من مواجهة صادرات تلك الدول تعريفات جمركية «معتدلة» وأكبر مما هي عليه اليوم.
يتفق أبيجيت بانيرجي وإستر دوفلو الحائزان بدورهما على جائزة نوبل مع رودريك، ولكنهما يدعمان توجهاً لزيادة الدعم الحكومي في الغرب لتدريب وتأهيل المتأثرين بالمنافسة العالمية بصورة أكبر من البرامج الحالية التي رصد عدد من الأبحاث فشلها التام في تقديم أي عون كاف.
لا أحد، ربما باستثناء ترمب ومساعديه، يرغب في حروب تجارية تهدد الاقتصاد العالمي. ذلك أن من شأن تلك الإجراءات، إن دخلت حيز التنفيذ بالفعل، أن ترفع من معدل التضخم في الولايات المتحدة، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة معدلات الفائدة عالمياً وما يتبع ذلك من تأثير سلبي على النمو وتكلفة الديون. كما أن حرباً تجارية بين واشنطن وبكين قد تؤدي أيضاً إلى تراجع معدلات النمو في الصين، وهو ما قد يعني تراجعاً في أسعار النفط. الكل خاسر هنا.
غير أن العالم الآن يدفع ثمن التلكؤ في الاعتراف بفشل التعاطي مع التداعيات السياسية والاقتصادية واتفاقيات التجارة الحرة، حتى وإن كانت تلك الخسائر قليلة بالمقارنة بالعوائد التي تحققت. الرهان الآن هو على قدرة شركاء أميركا الرئيسيين على الوصول لاتفاقات مع ترمب تضمن له بعض المكاسب، وهو أمر ممكن بالفعل. ما هو غير مقبول أن يتكل العالم على أنه باقٍ في منصبه أربع سنوات فحسب من دون النظر لنائبه جي. دي. فانس، القادم من «حزام الصدأ» الأميركي الذي دفع أكبر أثمان العولمة وتحرير التجارة.
رابط المصدر